منتديات قرية الطريبيل
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات قرية الطريبيل

إسلامي - علمي - تربوي - ثقافي- مناسبات - منوعات
 
الرئيسيةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كربلاء المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الإدارة
عضو ذهبي ممتاز
عضو ذهبي ممتاز
الإدارة


الجنس : ذكر
عدد الرسائل : 6362
تاريخ التسجيل : 08/05/2008

كربلاء المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه Empty
مُساهمةموضوع: كربلاء المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه   كربلاء المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه Emptyالخميس يوليو 12, 2012 6:48 am

كربلاء المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه

الدكتور عبد المجيد زراقط

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمينِ، والسَّلام على سِّيد الأنبياء والمرسلين.
والسَّلامُ عليكم، أيُّها الاخوة ورحمة الله وبركاته.

الحقيقة أن الموضوع الذي طُلِب إليَّ أن أعدَّ بحثاً فيه كبير، يحتاج إلى كتب لإيفائه حقه. ولهذا رأيت أن أحصر البحث في مدَّةٍ زمنية، هي المدَّة التي تلت كربلا‏ء، بغية رصد إسهامها في تكوين الذات الإسلامية، ومعرفة تجلِّيات التعبير عن هذه الذات. وهذا يقتضي أن نبحث في عدة قضايا، منها:
1- السياق التاريخي الذي ينبغي أن نفهم ثورة الإمام الحسين عليه السلام فيه.
2- مهمَّات الثَّورة الحسينية التاريخية.
3- طبيعة الحالة التي خلَّفتها كربلاء: حزنٌ وصحوة، وصيرورة هذه الحالة مكوِّناً أساسياً من مكوِّنات الوجدان الإسلامي في أعمق أعماقه.
4- تجسُّد هذا المكوِّن في التعبير الشعبي والشعر العربي، في ما أطلق عليه اسم العصر الأموي.

1- السِّياق التّاريخي
وصل الأمويون إلى‏الحكم بقوَّة السيف، وكانوا يعون ذلك ويعلنونه، فقد خاطب معاوية بن أبي سفيان أهل المدينة المنوَّرة بقوله: لا بمحبَّة وُلِّيتُها (يعني الخلافة)، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة. وخاطب أخوه عُتبة بن أبي سفيان أهل مصر بقوله: لا تمدُّوا الأعناق إلى غيرنا فإنَّها تنقطع دوننا.

يرسم خطاب الحاكم الأموي، في هذين الأنموذجين اللذين قدمنا، طبيعة الخلافة الأموية، من حيث سُبُل إقامتها وطرائق تعاملها مع الناس، وبخاصة المعارضين منهم، فهي خلافة قائمة ليس على إرادة الناس ورغباتهم، كما تفيد، "لا بمحبة ولِّيتُها" ، وإنما على الاغتصاب، بقوة السيف القاهر، والقاطع للأعناق إن امتدت إلى حيث تحب.
يقول "فلهوزن"، في هذا الصدد، وهو المستشرق الألماني المعروف: "وكان من السخرية بفكرة الحكومة الثيوقراطية (أي الدينية) أن يظهر الأمويون ممثِّليها الأَعلين، فهم كانوا مغتصبين وظلوا كذلك، ولم يكونوا يستندون إلا إلى قوَّتهم الخاصة، إلى قوة أهل الشام. ولكن قوتهم لم تستطع قط أن تصير حقاً شرعياً".
ويبدو أن الصراع تركز، في بداية الخلافة الأموية، على قضية مركزية يمكن لجملة فلهوزن الأخيرة أن تشير إليها. ويمكن لهذه القضية أن تتخذ العنوان الآتي: الصراع بين القوة المغتصبة والحق الشرعي في الخلافة، فالأمويون يريدون أن يصير ما اغتصبوه حقاً شرعيا، ومعارضوهم يرفضون ذلك، ويعملون على كشف زيف هذه الشرعيَّة المزعومة وإسقاطها.
وكانت كربلاء الحدث الذي جعل من المستحيل للخلافة الأموية أن تصبح شرعية وأن تستمر، وكانت أيضاً الحدث الذي وضع شرعيَّة السلطان الجائر موضع التطبيق، فكانت بذلك القدوة التي تتَّبع في كل زمان ومكان، ويمكن أن نوضح هذه الحقيقة كما يأتي:
عمل الأمويون، بغية تحقيق هدفهم الذي حدَّدناه آنفاً، على إكساب خلافتهم صفة الحق الإلهي، فخاطب زياد بن أبيه أهل العراق، فقال:
"أيها النَّاس إنَّا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفي‏ء الله الذي خَّولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة في ما أَحبَبنَا".
الحقيقة أن هذا نصُّ نادر في التعبير عن طبيعة الخلافة الأموية. يقول زياد: إن الأمويين أصبحوا ساسة الناس، ويريدون من هؤلاء الناس أن يسلِّموا بهذا الواقع الذي قُرِّر. والتسليم هذا يعود، كما يرى زياد، إلى كون الأمويين يسوسون النَّاس بسلطان الله الذي أعطاهم وخولهم. ولهذا فلهم على الناس حق السمع والطاعة في ما أحبُّوا. وهذا يقرِّر حقاً إلهياً في

الحكم وفي سمع الناس وطاعتهم لهذا الحكم. ويجعل مزاج الحاكم، أو ما يحبه الحاكم، مصدر التشريع بحسبان هذا المزاج إرادة إلهية، إن أطاعها الناس نجوا، لأن في هذه الطاعة طاعة الله كما يزعم. وهذه نظرية غريبة عن الإسلام، دخيلة عليه. ويمكن للمقارنة البسيطة بين هذا الخطاب وخطاب الخليفة الراشدي الأول أن تبين حقيقة هذه النظرية والفرق بينها وبين نظرية أخرى. وقد اخترنا خطاب الخليفة الراشدي الاول قاصدين إظهار الفرق بين نظريَّتين في الحكم:
1- النظرية الأموية التي تقول: فلنا عليكم السَّمع والطاعة في ما أحببنا.
2- نظرية عقد البيعة التي تقول: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، والتي تقول أيضاً: إن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوِّموني.
الواضح أن النظرية الأولى تلغي مَصدَري التشريع في الإسلام الَّلذين تقرُّهما الثانية، وهما الكتاب والسنة، وتضع مكانهما مزاج الحاكم أو ما يحبُّه الحاكم.
وقد عمل الأمويون على القول بنظريتهم وممارستها، وإقناع الناس بصحتها وإتباعها، فهذا روح بن زنباع أحد قادتهم الرَّئيسيِّن، وهو سيد قبيلة كلب، وهي القوة الرئيسية التي دعمت الأمويين، يخاطب الناس الذين أبطأوا عن بيعة يزيد، فيقول: إننا ندعوكم إلى من جعل الله له هذا الأمر واختصَّه به، وهو يزيد بن معاوية، ونحن أبناء الطعن والطاعون وفضلات الموت. وعندنا إن أجبتم وأطعتم، من المعونة ما شئتم.
في خطاب روح بن زنباع ثلاثة عناصر أساسية:
أولاً: الله يجعل هذا الأمر للحاكم ويختصُّه به.
ثانياً: إن لم تطيعوا فالطَّعن القائم.
ثالثاً: إن أطعتم فالمال حاضر.
وهذا ما فعله معاوية بن أبي سفيان، عندما أراد اخذ البيعة ليزيد، فوضع السيف إلى جانب أكياس المال، فمن أطاع له هذه، ومن لم يطع فله هذا.
يوهم هذا الخطاب بحقٍّ إلهي مزعوم، والناس بين أمرين: إما قبول أو رفض، ولكلٍّ جزاؤه، فالسَّيف والمال قائمان في خدمة الخطاب المضلِّل الساعي إلى إشاعة السمع والطاعة وسيادتهما.


وهكذا، كما نرى، راح الأمويون يقنعون الناس بأن تسلُّمهم الخلافة وممارستهم السياسية والاجتماعية والدينية، إلى آخره من ممارسات، مهما كانت شاذة وظالمة، أمر إلهي تجب طاعته، وقدر مرسوم لا يمكن تغييره أو تبديله، فلا جدوى من ثمَّ من الثورة عليه.
وهكذا برز، في ما بعد، ما يُتَّهَمُ الإسلام به من تسليم بالقضاء والقدر وحرصٍ على الثبات، والإسلام من هذا جميعه براء. وقد استخدم الأمويون مختلف الوسائل الإعلامية المعروفة آنذاك: الشعر، والقصص، ووضع الحديث، في سبيل نشر نظريتهم، وإقناع الناس بها. وكانوا مهرة في ذلك، يساعدهم ما وفَّرته لهم بيوت مال المسلمين من إمكانات. ويمكن أن نقدِّم نماذج من هذا الاستخدام، على سبيل المثال فحسب. فمن الحديث الموضوع ما يأتي: والأحاديث الموضوعة كثيرة جداً، يروي ابن قتيبة حديثاً عن الحجاج عن أبي هريرة، فيقول: قال الحجاج: قال لي أبو هريرة: ممَّن أنت؟ فقلت: من العراق. قال: " يوشك أن يأتيك أهل الشام، فيأخذوا صدقتك، فإذا أتوك فتلقَّهم بها، وإذا دخلوها فكن في أقاصيها، وخلِّ عنهم وعنها، وإياك أن تسبَّهم، فإنك إن سببتهم ذهب أجرك وأخذوا صدقتك، وإن صبرت جاءتك في ميزانك يوم القيامة ".
يريد هذا الحديث الموضوع من أهل العراق أن يتخلَّوا عن حقوقهم، وأن يصبروا على الظلم، وأن يطيعوا. ويريد منهم أيضاً أن يقتنعوا، وهذا الأهم، بأن في طاعتهم هذه أجراً يجي‏ء في الميزان يوم القيامة.
وهذه هي فكرة إرجاء الحساب إلى يوم القيامة، وهكذا يوظَّف هذا الحديث وغيره من أحاديث كثيرة في خدمة المشروع السياسي الديني الأموي الذي تحدثنا عنه آنفاً.
ويوظف الشعر في الخدمة نفسها، فعندما يقول الشاعر محترف المديح:"إن أميرالمؤمنين وفعله كالدهر لا عار بما فعل الدهر"، يكون ناظماً للحديث الموضوع الآتي:" من رأى من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ".
كان الأمويون، كما رأينا، يريدون من هذه النظرية التي استخدموا الشعر والقصص والأحاديث الموضوعة لإشاعتها وإقناع الناس بها وسيادتها من ثم، تسويغ القعود والصبر على الظلم والرضا به، أو كانوا يريدون جعل ذلك القعود والصبر والرضا بالظلم طاعة


للشرع، يؤجر الإنسان عليها. وهذا يخفي الشعور بواجب تغيير السلطان الجائر عند المسلم، ويبعد الشعور بالجبن عند الإنسان العربي غير المسلم. ويخفي الشعور بالإثم عند المسلم الصابر على الظلم.
كان العربي يقول، آنذاك، بلسان مالك بن الرَّيب التميمي: "وما أنا كالعير المقيم لأهله على القيد في بحبوحة الضيم يرتع". كان العربي غير المشبع بتعاليم الإسلام يرفض الظلم. فكيف بالمسلم!؟ إن هذه النظرية التي تشرِّع الطاعة تدفع الفارس، الرافض أن يكون كالعير، إلى تسليم أمره لله ولخليفته، كما صار الخلفاء الأمويون يدعون، وإلى أن يرى في أعمال الخليفة مهما كانت فظيعة ومغايرة لكتاب الله وسنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كاغتصاب الخلافة والتجويع والتشريد والقتل، إرادة إلهية. في قبولها طاعة لله، موصلة إلى رضاه وجنانه، وفي رفضها ومقاومتها ابتعاد عن الله وطاعته واستمطار لغضبه، واستحقاق لعقاب خليفته. هكذا كان الأمويون يريدون تقييد حركة الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية بإرادة السلطان صاحب القوة المغتصبة القاهرة، من طريق اعتبارها قوة تسوس الناس لسلطان الله، ولصاحبها الحق في أن يحكم كما يحب ويريد.
في هذا السياق التاريخي، ينبغي أن نفهم ثورة الإمام الحسين عليه السلام . فقد كانت ثورة تكشف هذا الزيف، وتنهض إلى تصحيح الانحراف وتقويم الارتداد، وتجعل حق تغيير السلطان الجائر واجباً شرعياً ينبغي على المسلم أن يؤدِّيه.

2- مهمَّات الثَّورة الحسينية التاريخية
كانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، إذاً، ثورة تغيير تنطلق من تعاليم الدين الحنيف الذي كان السلطان يمارسه وفق فهم يلائم مصالحه، فأفرغه من حقيقته، وأبقى شكليات الطقوس فحسب. إن ثورة كربلاء تجديد للهجرة، أو هي الهجرة الثانية، إن صح التعبير، تسعى إلى مقاومة الثورة المضادة. وهي بهذا تواصل الطريق الذي خطَّه الإمام علي عليه السلام ومارسه. ويمكن أن نقدم مثالاً يوضح ما نذهب اليه، كان عمار بن ياسر (رضوان الله عليه) قد قال في صفين: "إننا نقاتهلم على تأويله (أي القرآن الكريم) كما قاتلناهم أمس على تنزيله"، فطبيعة القتال لا تزال هي نفسها.

وقد خاطب الإمام الحسين عليه السلام الناس مشرِّعاً التغيير:"من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً بعهد الله مخالفاً لسَّنة رسول الله، فلم يغيِّر بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله".
ثم خاطب المسلمين، وقد خرج ليؤدِّي واجبه في التغيير بعد أن شرَّعه في الفقرة الأولى: "ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود واستأثروا بالفي‏ء، وأحلّوا حرام الله وحرَّموا حلاله...".
وكتب يجيب على رسائل أهل الكوفة محدداً مهمات الإمام وواجباته:"لعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدَّائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله، والسلام".
إن الإمام، كما نرى في هذا النَّص، ليس إلا العامل بالكتاب، فالكتاب مصدر العمل، وليس ما أحببنا (كما وَرد خطبة زياد) والآخذ بالعدل والدَّائن بالحقِّ، والفعل إنما يفعله الإمام ويحاسب عليه، وليس الفعل نتاج قضاء الدهر وقدره.
إن الباحث يجد نفسه، كما يبدو، إزاء خطابين نقيضين، ومن يتأمل هذين الخطابين: خطاب السلطان ورجاله، أي الحكم الأموي من نحوٍ اول، وخطاب الإمام الحسين عليه السلام من نحوٍ ثانٍ، يرى أنه إزاء نهجين نقيضين:
أولهما: يريد للقوة المغتصبة أن تكون حقاً إلهياً في الحكم، مرجعه مزاج الحاكم الذي يعدُّ التسليم بما يحبه هو طاعةً لله.
وثانيهما: يريد للدين الإسلامي، الممثل بكتاب الله، أن يسود الحياة، وأن يلتزم الحاكم بمصدري التشريع: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الموصلين إلى العدل والحق، ويعطي الحق للمسلمين بالتغيير إن عُطِّلت الحدود واستُحِلَّ ما حرَّمه الله.
وهكذا كان الصراع في كربلاء بين سلطان خرج على تعاليم الإسلام، في الوقت نفسه الذي كان يوهم المسلمين بأنَّه الحاكم الذي اختصَّه الله ليحكم باسمه، وبين قوَّة ثائرة تريد أن تغيِّر هذا الواقع المموَّه والمزيَّف وأن تعيد للإسلام سيادته، وأن تقر شرعية الثورة على السلطان الطاغية، الجائر. وقد كان كثير من المسلمين يدركون هذه الحقيقة. فقد جاء، في إحدى رسائل أهل الكوفة إلى الإمام الحسين عليه السلام ، بعد موت معاوية:


"فالحمد لله الذي قسم عدوَّك الجبار العنيد الذي افترى على هذه الأمة، فابتزها أمرها وغصبها فيئها، وتأمَّر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الدولة بين جبروتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود. إنه ليس علينا إمام، فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق".
إن صورة الحاكم الجبَّار العنيد، المعيد سيرة ثمود، تبدو واضحة في هذه الرسالة التي تمثل رؤية فئة كبيرة من المسلمين إلى السلطان الأموي.وقد وجد هؤلاء في الإمام الحسين عليه السلام الشخصية القادرة على مواجهة هذا السلطان، فلجأوا إليه، بوصفه كما جاء في خطاب كثير من المسلمين له، نور الأرض وعلم المهتدين ورجاء المؤمنين، وبوصفه أيضاً القادر على الحيلولة بينهم وبين ما أسموه الرق والعبودية.
كانوا يخافون من الأمويين، ويشعرون بأنهم سيصبحون أرقَّاء وعبيداً، فمن الخطاب الذي وجِّه إليه على ألسنة الناس، في هذا الصَّدد، قول عبد الله بن مطيع "فو الله لئن هلكت لنسترق بعدك". وقول شخص آخر: " لئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً ".
وهذا حدث فعلاً عندما استباح الأمويون، بعد كربلاء، المدينة المنورة. وقد أباحوا المدينة للجند يفعلون ما يشاؤون مدة ثلاثة أيام بلياليها، ففعل الأعراب بالمدينة المنورة أفعالاً لا تخطر ببال إنسان.
وهكذا ندرك حقيقة هذا النهج الذي مثله الإمام الحسين عليه السلام وحقيقه النهج الذي ثار ليغيِّره وحقيقة الموقع الذي كان يأخذه في المجتمع الإسلامي. وإن أدركنا هذه الحقائق، كما تبينت لنا، ندرك طبيعة الحزن الذي أصاب المسلمين بعد حدوث كربلاء.

3- المكوِّن الوجداني الأساس
وندرك، في الوقت نفسه، صيرورتها مكوِّناً أساساً من مكوِّنات الوجدان الإسلامي في أعماق أعماقه، فقد أحس المسلمون وأدركوا أن نوراً قد انطفأ في قلوبهم ومن دنياهم وفي مجتعهم، وأن علم المهتدين قد طُوي، وأن القادر على منع عبوديتهم قد استشهد. فحزنوا من ناحية، ولكنهم صحوا من ناحية ثانية. وظل هذان الفعلان: الحزن والصحوة متلازمين من كربلاء إلى أيامنا هذه. وإن كان لنا أن نرصد تجسدهما في الشعر العربي


فسوف نفعل ذلك مكتفين هذه المرة بتقديم نماذج من شعر العصر الأموي؛ وذلك لأن التقصي في الأدب العربي كله يقتضي بحوثاً طويلة، وقد يتاح في الآتي من الأيام إن شاء الله أن نقوم به.

4- تجسيُّد المكوَّن لغةً شعرية
قبل أن نقدم نماذج من الشعر نوّد أن نلفت إلى مسألة مهمة يجدر بنا ذكرها في هذا المقام، وهي أن قسماً كبيراً من الشعر الشيعي قد فقد؛ وذلك لأنه كان يكتم في ذلك الزمان، يقول الطبري في سياق حديثه عن التوابين: " وكان، في ما قيل من الشعر في ذلك، قول أعشى همدان، وهي إحدى المكتَّمات".يفيد قول الطبري أن الشعر الشيعي كان يكتَم، فكم من شعر كان مكتَّما، وبقي كذلك فلم يُقَدَّر له الخروج إلى دنيا النشر التي كانت بأيدي الرواة. ومن الأدلة التي تفيد أن كثيراً من الشعر دفن مع أصحابه أو بعدهم بقليل ما يأتي:
يقول الطبري أيضاً: "كان عبد الله بن عمر البَدِّي من أشجع الناس وأشعرهم وأشدهم حبَّاً لعلي عليه السلام"، ونسأل نحن اليوم: ماذا بقي لنا من شعر هذا الفارس الشيعي الذي كان من أشعر الناس، كما يقول الطبري؟ لا شي‏ء يذكر فكتب الأدب لا تكاد تذكر اسمه، ومما لا شك فيه أن البدى كان واحداً من آخرين فُقِد شعرهم. ويقول أبو الفرج الأصفهاني:"إن شعر الكميت بن زيد الأسدي كان حين مات خمسة آلاف ومئتين وتسعة وثمانين بيتاً"، ولم يبق لنا نحن اليوم من هذه الآلاف الخمسة سوى مئات الأبيات. تفيد هذه الحقيقة أن ما وصلنا من شعر ليس كل ما جادت به قرائح الشعراء، وأن بعض القصائد التي وصلت قد تكون غير كاملة. في ضوء هذه الحقيقة، يمكن أن نقرأ بعض النماذج الشعرية:
يروي صاحب مروج الذهب، أن محمد بن علي عليه السلام ، ابن الحنفية، كان في ما عاش من سنين، بعد كربلاء، يتأسى بشعر ينظمه ويردده، ويذكر هذه الأبيات:
أَأَدهن رأسي ‏أم تطيب مجالسي‏
وخدُّك معفور وأنت سليب!؟
أأشرب ماء المزن‏ من غير مائه
وقد ضمت الأحشاء منك لهيب!؟



سأبكيك ما ناحت حمامة أيكة
وما اخضرَّ في دوح الحجاز قضيب
غريبٌ وأكناف الحجاز تحوطه
ألا كل من تحت التراب غريب‏

يبكي الفارس الهاشمي، محمد ابن الإمام علي عليه السلام ، طوال العمر، بكاءً يبقى ما بقيت الحياة بنوح حمامها واخضرار أرضها. وهاتان إشارتان ترمزان إلى مظهري الحياة. يبكي، ويحس غربة، ويعيش حالةً فظيعة. وإن كانت مظاهر الحياة تحيط به، فهو يسأل عما إذا كان قادراً على العيش، أو على الاستمرار في القيام بأبسط نشاطات العيش، بعدما حدث في كربلاء. وسؤاله يصوِّر الإحساس بأن الحياة، بمختلف أشيائها ومظاهرها، قد تغيرت بعد كربلاء، قد تغيَّرت بعدما انطفأ نورها، وطوي علمها، واستشهد حامي حرية إنسانها.
لقد اهتز العالم في نظر الإنسان المسلم، ولكن هل كان هذا الموقف مقصوراً على فئة من المسلمين يمثلها محمد ابن الإمام علي عليه السلام ، أو أنه شمل معظم المسلمين إن لم نقل جميعهم؟ ثم هل أدى اهتزاز علاقة الإنسان بالعالم إلى تكوين في الذات يسعى إلى تغيير العالم الذي تعرَّى وكُشِف زيفه؟
نحاول، في ما يأتي، الإجابة عن هذين السؤالين من خلال نماذج تصور وجدان الناس في ذلك العصر. ولن تقتصر محاولتنا على الشعر المتداول، وإنما سوف نلتقط ما يصوِّر أحاسيس الناس ومشاعرهم الواعية واللاواعية كما تجلت في مظاهر عديدة.
يفيد عرض بعض ما ورد، في كتب الأدب والتاريخ عن واقعة كربلاء، أن حالة من الحزن العميق عمَّت العالم الإسلامي جميعه، رافقها شعور بالذنب فظيع أثمر، في ما بعد، ثورات متتالية كانت تسعى إلى التغيير الذي أراده سيد الشهداء.
كان الإحساس بالمأساة إحساساً شعبياً عميقاً وكثيفاً إلى درجة غدا كُّل ما يذكِّر بها وكل ما يثيرها وكأنه من آثارها، وقد اتخذ التعبير عن هذا الإحساس الشعبي العميق النابض في اللاشعور الفردي والجمعي مظاهر عديدة يمكن أن نورد بعضها على سبيل المثال فحسب، ويمكن لمن يريد الاستزادة أن يعود إلى المصادر.
يروي الطبري هذا الخبر. (وتلاحظون أن المصادر التي أخترتها عن قصد غير شيعية)


قال: أصبحنا صبيحة قتل الحسين عليه السلام بالمدينة. نادى مولى لنا يحدثنا. قال: سمعت البارحة منادياً ينادي:
أيها القاتلون جهلاً حسيناً أبشروا بالعذاب والتنكيل...

الناس جميعهم في المدينة شعروا كأنهم سمعوا منادياً ينادي في المدينة:
"أيها القاتلون جهلاً حسيناً، أبشروا بالعذاب والتنكيل، كل أهل السماء يدعون عليكم،
من نبي وملك وقبيل قد لُعنتُم على لسان ابن داود وموسى وحامل الإنجيل ".

ويروي الطبري أيضاً ما يأتي: "فلما قتل الحسين عليه السلام لبثوا شهرين، أو ثلاثة أشهر، كأنما تُلطخ الحوائط بالدماء منذ أن تطلع الشمس حتى ترتفع ".
وقد عبر الشاعر عن هذا، فقال، ونلاحظ، أن نسبة الشعر إلى شاعر غير معروف معيَّن تفيد أنه ينطق بلسان الشعب ويجسد وجدانه.
ألم تر أن الشمس أضحت مريضة
لفقد حسينٍ والبلاد اقشعرت‏
وقد أعولت تبكي السماء لفقده‏
وأنجمها ناحت عليه وظلت‏.

ويروي المؤرخ هذا الخبر أيضاً: "قعد الذين ذهبوا بالرأس في أول مرحلة من الطريق، وجلسوا ليشربوا النبيذ، فإذا قلم من حديد يخرج عليهم من حائط فيكتب بالدم:
أترجو أمة قتلت حسيناً
شفاعة جدِّه يوم الحساب.
وما كادت الجماعة تشهد هذا حتى فرت هاربة.

ما يهمنا من هذه الأخبار دلالتها على طبيعة الإحساس الشعبي الذي عاشه مسلمو تلك المرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي، فالأحداث قد لا تكون مادية ووقعت فعلاً غير أنها أحداث ذاتية، أحاسيس ومشاعر وقعت نفسياً، هذا الوقوع يصور الإحساس والإثم والرعب من فظاعة ما حدث، يصور الإحساس الذي كان ينتاب أناس ذلك العصر، فيولِّد لهم رؤيا تمثِّلها أحداث هي ابنة الحالة التي كانوا يعيشونها ويعانون منها.
لم يكن هذا الإحساس خاصاً بالشيعة؛ إذ لم يكن المذهب الشيعي قد تكون في تلك الآونة، وإنما كان إحساساً عاماً وصل إلى صميم النفس الإسلامية وإلى لاوعيها، وقد تم


التعبير عنه على شكل رؤى تجسِّد الحالة الشعبية كما رأينا.
وقد أثارت كربلاء، في هذا المناخ الذي حاولنا الإشارة إلى ملامحه، أسئلة ومفارقات غريبة، فهذا يحيى بن الحكم الأموي، وهو أخو مروان بن الحكم (وهو ابن عم يزيد) يعجب من أن سميَّة جدة عبيد الله بن زياد، وهي "بَغيُّ"، أمسى نسلها عدد الحصى وأن آل المصطفى يقتلون، يقول ابن الحكم وهو من الأسرة الحاكمة كما قلنا:
لهَاَمٌ بجنب الطف أدنى قرابة
من ابن زياد العبد الحسب الوغل‏
سمية أمسى نسلها عدد الحصى
وليس لآل المصطفى من نسل!

ويعجب كثير بن كثير الهمي، وهو شاعر، فيقول:
يأمن الظبي والحمام‏
ولا يؤمن آل الرسول عند المقام

وهذه سيدة من عامة الناس تخرج إلى الناس سائلة على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
ماذا تقولون إذا قال النبي لكم:
ماذا فعلتم وأنتم خير الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي
منهم أسارى وقتلى درجوا بدمي‏
ما كان هذا جزائي أن نصحت لكم
أن تخلفوني بسوء في ذوي رحم

وقد عاش مرتكبو الفعل أنفسهم حالات أحسوا فيها بأنهم منبوذون من المجتمع، لا يملكون فرص عيش حياة طبيعية مهما علت مناصبهم.ومن الأمثلة على ذلك نذكر يزيد نفسه، فقد شعر هذا ببغض الناس له، فقال ناسباً ما حدث في كربلاء إلى ابن زياد: "زرع لي في قلوبهم (أي الناس) العداوة فبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلي الحسين ".
وتروي بعض الكتب أن يزيد قد جُنَّ ومات في إحدى نوبات الجنون. ولم يكن بعض المشاركين بقادر على تحمل بغض الناس له ونبذهم إياه، فجُنَّ أو اقترب من الجنون. ويروى


الطبري أن أحدهم، وكان الناس قد نبذوه، وكانت زوجته قد رفضته ونبذته أيضاً، فاقتحم دار ابن زياد وهو ينشد ويطلب من ابن زياد:
أوقر الركاب فضة وذهبا‏
قد قتلت الملك المحجَّبا‏
قتلت خير الناس أماً وأبا
وخيرهم إذ ينتسبون نسبا

الحقيقة أن هذا المناخ الشعبي حطَّم إطار الزيف الدِّيني الذي راح الأمويون يحوكونه، بغية أن يصير ما اغتصبوه حقاً شرعياً يؤكِّد ضرورة سيادتهم وطاعتهم. وقد أثمر هذا المناخ، وعنصره المهيمن الشعور بالذنب، حركات ثورية بدأت في السنة نفسها التي حدثت فيها كربلاء، وهذا يعني أن كريلاء كانت مكوِّنا أساساً من مكونات الوجدان الإسلامي، مكوِّن فيه حزن، وفيه وعي وصحوة وسعيٌ إلى التغيير، وهذا المكوِّن لم ينفك ولن ينفك عن الفعل طوال التاريخ الإسلامي1.



هوامش


1- محاضرة ألقيت في محرم 1416هـ في مركز الإمام الخميني الثقافي









من كتاب ثورة الإمام الحسين قراءة في الأبعاد والدلالات
جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://turaibel.mam9.com
 
كربلاء المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات قرية الطريبيل :: الاقـسـام الاسـلامـيـة :: منتدى أهل البيت عليهم السلام :: منتدى الامام الحسين بن علي عليهما السلام-
انتقل الى: