نشأة الإمـام الكاظم (عليه السلام)
خلال عشرين عاماً من عمره الشريف كان والده الإمام أبو عبد اللـه الصادق (ع) يتعهده بالرعاية ، ويشير إلى فضائله ويبين لخاصة أوليائه أنه سيد ولده ، وأنه الإمام من بعده .
إن الإمامة لابد أن تكون بنص صريح ، وقد تواترت النصوص على الأئمة الإثني عشر من الرسول الأكرم (ص) ، وهكذا كان كل إمام يوصي بمن بعده ، فلهذا كان الموالون لآل البيت (ع) حريصين على التأكد من إمامهم يسألون السلف عن الخلف .
يــروي عبد الرحمن بن الحجاج يقول : دخلت على جعفر بن محمد في منزله وهو في بيت كذا من دار ،
في مسجدٍ له وهو يدعو ، وعلى يمينه موسى بن جعفر يؤمِّن على دعائه ، فقلت له : جعلني اللـه فداك قد عرفت انقطاعي إليك ، وخدمتي لك ، فمن وليّ الأمر بعدك ؟ قال : ( يا عبد الرحمن إن موسى قد لبس الدرع فاستوت عليه ، فقلت له : لا أحتاج بعدها إلى شيء ) (4) .
وكان الإمام الصادق (ع) يوصي سائر أبنائه بحق ابنه موسى (ع) ، فهذا عبد اللـه بن جعفر أكبر سناً من الإمام موسى يتحدث إليه والده ويقول له : ما يمنعك أن تكون مثل أخيك ، فواللـه إني لأعرف النور في وجهــــه ، فقال عبد اللـه : وكيف ؟ أليس أبي وأبوه واحداً ؟ وأصلي وأصله واحداً ؟ فقال له أبو عبد اللـــه : ( إنه من نفسي وأنت ابني ) (5) .
وكانت حياة الإمام موسى (ع) متميّزة منذ الصبا ، ولذلك فقد كانت في ذلك أمارة مقامه العظيم . جاء في حديث مأثور عن صفوان الجمّال وهو من خواصّ الشيعة ، سألت أبا عبد اللـه عن صاحب هذا الأمر ، قال : صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب ، وأقبل أبو الحسن وهو صغير ومعه بهمة عناق مكية (6) ويقول لها: ( اسجدي لربك ، فأخذه أبو عبد اللـه وضمه إليه وقال بأبي أنت وأمي من لا يلهو ولا يلعب ) (7) .
وهكذا شبّ موسى بن جعفر محبوباً بين إخوته بسبب وصفه المميز ، وعملا بوصايا والده بحقه ، فكان بين إخوته المتمسّكين بولاية علي بن جعفر ، جاء في الحديث المأثور عن محمد بن الوليد قال :
( سمعت علي بن جعفر بن محمد الصادق (ع) يقول : سمعت أبا جعفر بن محمد (ع) يقول لجماعة من خاصته وأصحابه : استوصوا بموسى ابني خيراً فإنه أفضل ولدي ، ومن أخلّف من بعدي وهو القائم مقامي والحجة للـه عزّ وجلّ على كافة خلقه من بعدي ، وكان علي بن جعفر شديد التمسك بأخيه موسى، والإنقطاع إليه ، والتوفر على أخذ معالم الدين منه ، وله مسائل مشهورة عنه ، وجوابات رواها سماعاً منه، والأخبار فيما ذكرناه أكثر من أن تحصى على ما بيًّناه ووصفناه ) (
.
ولأن عهد الإمام الصادق (ع) مميَّز ببعض الانفراج ، وقد انتشرت معارف أهل البيت وأصبح مذهبهم من بين المذاهب الأكثر شيوعاً واتباعاً في العالم الإسلامي ، فلقد كان الخوف على مستقبل الطائفة شديداً ، حيث كان يخشى من طمع بعض القيادات في الرئاسة على الطائفة ، وربما انجرف معهم بعض أولاد الإمام الصادق أو أحفاده ، لذلك فقد كان تأكيد الإمام على أن الوصي بعده ابنه موسى شديداً ومستمراً .
وهكذا كان فلقد انحرف البعض وزعم أن الوليّ بعد الإمام الصادق ( عليه السلام ) ابنه الأكبر إسماعيل، وقالوا بأنه لم يمت على عهد أبيه إنما غاب عن الأنظار .
وكانت الفرقة الإسماعيلية ذات الشوكة التي أسست أكبر حركة ثورية بعد الحركة الرسالية ، وبَنت دولة عظيمة في شمال إفريقيا وكانت هذه الحركة وليدة هذا التصور الخاطىء .
من هنا أشهد الإمام الصادق (ع) كبار شيعته على وفاة ابنه وأكد لهم أن الوصي الحق بعده إنما هو موسى (ع) .
فلقد روي عن زرارة بن أعين أنه قال :
( دخلت على أبي عبد اللـه (ع) وعن يمينه سيد ولده موسى (ع) وقدّامه مرقد مغطى ، فقال لي : يا زرارة جئني بداود الرّقي ، وحمران ، وأبي بصير ، ودخل عليه المفضل بن عمر ، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره ، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد ، حتى صرنا في البيت ثلاثين رجلاً .
فلما حشد المجلس قال : يا داود اكشف لي عن وجه اسماعيل ، فكشف عن وجهه ، فقال ابو عبد اللـه (ع) : يا داود أحيّ هو أم ميت ؟ قال داود : يا مولاي هو ميت ، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل ، حتى أتى على آخر من في المجلس وكل يقول : هو ميت يا مولاي ، فقال : اللـهم اشهد ثم أمر بغسله وحنوطه ، وإدراجه في أثوابه .
فلما فرغ منه قال للمفضل : يا مفضل أحسر عن وجهه ، فحسر عن وجهه فقال : أحيّ هو أم ميت ؟ فقال ميت قال : اللـهم اشهد عليهم ، ثم حمل إلى قبره ، فلما وضع في لحده قال : يا مفضل أكشف عن وجهه ، وقال للجماعة : أحيّ هو أم ميت ؟ قلنا له : ميت فقال : اللـهم اشهد ، واشهدوا فإنه سيرتاب المبطلون ، يريدون إطفاء نور اللـه بأفواههم ثم أومأ إلى موسى ، واللـه متم نوره ولو كره المشركون ، ثم حثوا عليه التراب ، ثم أعاد علينا القول فقال : الميت المكفن المحنط المدفون في هذا اللحد من هو ؟ فقلنا : إسماعيل قال : اللـهم اشهد ، ثم أخذ بيد موسى (ع) وقال : هو حق والحق معه ومنه ، إلى أن يرث اللـه الأرض ومن عليها ) (9) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع موسوعة بحار الأنوار : ( ج 48 ، ص 4 ) وأيضاً كتاب المحاسن للبرقي : (ج 2 ، ص 418) .
(2) موسوعة البحار : ( ج 48 ، ص 2 ) .
(3) المصدر : ( ص 6 ) نقلاً عن الكافي : ( ج 1 ، ص 477 ) .
(4) المصدر : ( ص 181 ج 48 ) .
(5) المصدر .
(6) البهمة الواحدة من الضأن ، والعناق الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم لها سنة .
(7) المصدر .
( المصدر . ( ص 20) .
(9) المصدر : ( ص 21) .من كتاب الإمـام الكاظم (عليه السلام) قدوة وأسوة
السيد محمد تقي المدرسي