الإدارة عضو ذهبي ممتاز
الجنس : عدد الرسائل : 6362 تاريخ التسجيل : 08/05/2008
| موضوع: أبعاد الاستشهاد في ثورة الحسين الثلاثاء يوليو 31, 2012 12:28 pm | |
| أبعاد الاستشهاد في ثورة الحسين
الوزير السابق جوزيف الهاشم الكلام على البُعد الاستشهادي لثورة الإمام الحسين، لا يصح أن يتناول مرحلة تاريخية حصرية، منفصلة بذاتها، منقطعة عن جذورها.بل هناك تلازم عضوي بين البُعد والعمق، وتواصلٌ ملتحم بين صرخة الاعتراض الأولى وساعة الحسم. ثورة الإمام الحسين، هي التتويج التجسيدي لملحمة ثورية طويلة، تعبَّأت بالجهاد وتضمخت بالشهادة. وقل إن الثورة انطلقت من معارضة إلى انتفاضة، ومن ثورة باردة إلى ثورة حامية، ولم تكن ميلاً مكبوتاً ينتظر الانفلات، بل كانت تصحيحاً لحال انفلات عن حقيقة مكبوتة. الثورة الباردة أطلقها الإمام علي، على عهد من سبقه من الخلفاء، فكانت أقرب إلى التطور منها إلى الثورة. والثورة الحامية أطلقها الشعب، على عهد عثمان، فاندلعت بعنف، لأنها اصطدمت بجدار يقاوم تحقيقها. والانتفاضة الأولى للثورة كانت يوم السقيفة، الذي ارتدت الخلافة فيه تفسيراً قبلياً "لأن قريشاً قررت ألاَّ تعطي السلطة للهاشميين..." بما اعتُبر تحريفاً للنصوص في "حديث الدار وحديث الثقلين". فالتحريف يؤدي إلى الانحراف. الانحراف يؤدي إلى الثورة. ولعل المحطة الثانية للثورة، كانت يوم الشورى، وقد تم الأمر بعد عمر لعثمان، فكان السكوت أيضاً، "ما سلمت أمور المسلمين"...
ولأن أمور المسلمين لم تسلم، ولأن أهل البيت، عليها مؤتمنون، اندلعت الثورة الحامية، فحققت أهدافها بتولية الإمام علي. وثورة علي، لم تكن تحتاج إلى شعار... ولا إلى عناوين. الرجل في حدّ ذاته منهاج متكامل لها. والثورة ليست فورة عاطفية ونزعة غرائزية، تنطلق من المجهول فتصطدم بالمجهول، بل هي موقف متسامٍ يحقق ضرورات جديدة، ومفاهيم جديدة، وتتوق نحو الأفضل. جاءت خلافة الإمام علي بعد عشرين سنة من وفاة النبي، بما ساد تلك الفترة من تقطّع في التواصل الحقيقي مع روح الدعوة، فلم يكن الذين عاصروا خلافته من زعماء القبائل وشيوخها، قد واكبوا المسيرة النبوية وعاشوا مراحلها ومارسوا معانيها، بقدر ما شغلتهم أهواء النزاع السياسي والإغراءات الشخصية، فإذا هم غرباء عن ذلك النمط الرسولي من المثالية العلوية المتجردة. وكان استشهاد الإمام علي، المحطة الأبرز للثورة، بل كان بداية الانتصار، إذ حين خرّ الإمام صريعاً في مسجده، كان أول ما تفوهت به شفتاه: فزتُ ورب الكعبة... فاز خطّه، فازت ثورته، وفاز خط الإسلام. وعندما فتح عينيه في تلك اللحظة الحاسمة، ورأى الحسن يبكي، أشار إليه الإمام: بأن الآلام سائرة نحو الآمال وبأن الخط سائر في التواصل. واستكملت مسيرة الثورة على يد الحسن، واستكملت في المقابل دسائس الفتنة لقتله، وتثاقل الناس معه للجهاد، فكانت المبايعة المشروطة استبعاداً موقتاً لاستحقاقات المعركة، "فصالحتُ، ورأيت دفع الحروب إلى يوم ما...". والظروف لم تمهل الحسن للاستعداد إلى "يوم ما"، فكانت مدة ولايته نحواً من سبعة أشهر، واستشهد مسموماً، فيما الإرهاب قد بلغ حدّه الفاحش. منذ لحظة استشهاد الحسن، كان الحسين قد اتخذ قراراً وجدانياً حاسماً لا رجوع عنه.
إنه يأبى أن يقتل اغتيالاً كأبيه أو مسموماً كأخيه. إنه يرفض أن يترك الأمة والدين فريسة الجشع والاضطهاد والاستغلال، فيما مصير المسلمين عرضة للأغراض والأهواء.
جهاد الإمام الحسين عليه السلام هل أجيز لنفسي هنا أن أخالف بعض المحللين والباحثين في جانب من اجتهاداتهم حول خطة الحسين؟ بعضهم بالغ في التلميح، إلى أن الحسين وضع الاستشهاد في خاطره قراراً قدرياً محتوماً؟! وأنه، منذ إطلاق شرارة الثورة كان الاستشهاد أبرز سلاحها... وإن الثورة تحتاج إلى صدمة دموية رادعة هي صدمة الاستشهاد... هل أعارضهم القول: بأن التركيز على الاستشهاد قراراً حتمياً مسبقاً هو نوع من الاستسلام المسبق، فيما الحسين كان ينتهج سياسة التصدي والمواجهة المباشرة، وكان مقاوماً بكل ما تعنيه كلمة المقاومة من معنى. وأنه حتى منتصف الطريق نحو العراق. كان يأمل في أن ينضم الناس إليه ويلتفوا حوله، وهو يجادلهم، ويستحثهم إلى جانبه مقاتلين؟! ننتقص من الحقيقة التاريخية إذا أغفلنا الإستراتيجية السياسية، العسكرية النفسية، التي وضعها الحسين للمواجهة، بكل ما تميزت به هذه الإستراتيجية من حنكة وحكمة وذكاء. وننتقص أيضاً من الحقيقة، إذا تجاهلنا أن الحسين قد وضع في خاطره الاستشهاد سلاحاً رديفاً للانتصار. بلى... عندما أدرك أن الجماهير تعيش حالة اللاوعي. وأن الثورة التصحيحية ارتدَّت عنها السواعد، ولم يبق إلا دم الشهادة. عندها كان القرار، بأن يأخذ الدم الزكي مجراه في عروق التاريخ، مع كل حقائقه ومواقعه ووقائعه.
لم يكن الحسين يعتبر العهد الذي قطعه لمعاوية مع الحسن، تسليماً بولايته ، بل لاكتساب الوقت، والقيام بمرحلة التهيئة للثورة. فلم يرجئ سلاح المواجهة، إلا ليشهر سلاح المهادنة. المهادنة بالنسبة إلى الحسين كانت حرباً مستترة، وتأجيجاً للثورة ، وتأجيلاً لها ، حتى يأتي عهد يزيد. كان يدرك أن الثورة في عهد معاوية، ستؤدي إلى قتل جذور الثورة وامتدادات نتائجها، على أنها نقض للعهد وطمع بالسلطة. وحتى الاستشهاد في عهد معاوية، لم يكن ليأخذ هذا الوهج الإنساني كقيمة وجدانية صارخة في ضمائر الأجيال. بهذا التصور الواسع، واجه الحسين عوائق الثورة، فحمل سيف الإسلام المعنوي والروحي، في انتظار سيف الإسلام الجهادي. وشنّ الحسين حرب المبادئ، فانتهج خط المقاومة السياسية والمواجهة العقائدية، وترك الثورة تلجّ في النفوس، مع ما استفحل من بلاء وجرائم، وعسف ومجازر، استهدفت خلّص المسلمين وأخلصهم للدعوة والرسالة والإسلام. وهل تكتفي ثورة الحسين بالشعار القائل: "الناس قلوبهم معك وسيوفهم عليك..."؟! وهل تكتفي بما قاله طه حسين: "ومات معاوية حين مات، وكثير من الناس يرون بغض بني أمية، وحب أهل البيت لأنفسهم ديناً..."؟! ومات معاوية حين مات... والثورة الحسينية ماضية في سبيلها الحق، بإصرار أشد وصلابة أقوى وإيمان لا يستكين. أيها الأمير ، قالها الحسين للوليد بن عتبة والي المدينة... "إنّا أهل بيت النبوة، ويزيد فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله...". بعد الخطبة الكربلائية الأولى، والصدى المخنوق الذي لقيته، شهر الحسين السلاح الاحتياطي للحرب، إنه سلاح الشهادة. عندها أدرك، أن حقيقة الانتصار باتت تستدعي فدية كبيرة تتألق بالدم.
كان في استطاعة الحسين أن يتراجع وهو في منتصف الطريق إلى العراق فينجو برأسه، الأمر لا يحتاج إلى كثير من الفطنة واليقظة، ولا إلى الخارق من الذكاء. إنه يتعلق بإنقاذ الدين ومصير الأمة، ولا مجال في سلوكية الأئمة، لأن يلجأ أصحاب الرسالة إلى الحذلقة والدهاء. بالتضحية والفداء.. أنقذ الإمام علي مبادئ الدين، ولولا الدين والتقى ، لكان أدهى العرب في تولية نفسه. وبالتضحية والفداء، أنقذ الإمام الحسين مبادئ الدين، ولولا الدين والتقى، لكان أدهى العرب في إنقاذ نفسه. إذا شئنا اختصاراً أدق لأبعاد ثورة الحسين، فإن أبرز نتائج الثورة هو السؤال: ماذا لو لم تحصل الثورة...؟ وفي تشخيص سريع لصورة ذهنية، عما كان عليه شأن الدين والدنيا، والحكم والمجتمع والناس... يبرز بصفاء أكبر، الجواب الأكبر عن سؤال: ماذا لو لم تحصل الثورة...؟ الجواب المخيف هو: استنزاف روح الإسلام باسم الإسلام المشوه... احتضار إنساني لدعوة النبي ورسالته وعقيدته وأحاديثه... اغتيال آخر للإمام علي، لمحطات جهاده ساعداً ولساناً في نشر الرسالة. وقل:إنه اغتيال للكلمة الإلهية في ليلة القدر، وقد طغى على رحمة السماء فساد الأرض. ويقابل هذا الجواب المخيف، جواب عكسي آخر لنتائج الثورة... وبُعْدٌ واسع الأعماق والآفاق. إن ثورة الحسين، ليست صرخة اعتراضية على حالة تاريخية محددة، مكتفية بأهدافها ومكانها وزمانها...
وليست ثورة حسينية، شيعية حصرية وكفى... وليست ثورة إسلامية، جامعة عامة وكفى... إنها ثورة إنسانية شاملة مطلقة، تعني كلّية الإنسان، جوهراً وروحاً وقيماً، كياناً وكينونة في كل آن ومكان. إنها ثورة ترسم هداية الطريق البشري، في منطلقاته وأبعاده، مثالاً عالمياً للأزمنة والأجيال. هكذا الدعوات والرسالات، بالتضحية تنتصر وبالشهادة تنتشر... وهكذا كتب القدر الإلهي للإمام علي والحسنين، شبيهاً بقدر عيسى... وكما انتصرت رسالة المسيح باستشهاده... هكذا انتصرت رسالة محمد بمسيرة استشهاد مثلث، كللها الحسين في كربلاء بأروع موقف رسولي، فإذا المئة والعشرون طعنة التي أصابت جسده أوسمة عز للإسلام. وإذا الرأس الذي اجتز مكلل بالغار، يرفع رأس الدولة الإسلامية عالياً، ويبعث تراثها القرآني، رسالة حضارية للعالمين1.
هوامش
1- محاضرة ألقيت في محرم 1415هـ في مركز الإمام الخميني الثقافي.
من كتاب ثورة الإمام الحسين قراءة في الأبعاد والدلالات جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
| |
|