الجنس : عدد الرسائل : 6362 تاريخ التسجيل : 08/05/2008
موضوع: منهاج الإمام (ع) في التربية الروحية السبت فبراير 02, 2013 9:10 am
منهاج الإمام (ع) في التربية الروحية ممَّا لاشك فيه أن أئمة الهدى هم مشاعل الحق للأجيال في كل عصر ومصر ، ولكن لأن الظروف مختلفة من جيل لآخر ، ومن مصر لمصر ثان ، ولأن اللـه قد ختم بالمصطفى رسالاته ، وبأوصيائه خلفاءه المعصومين ، فإن حكمته اقتضت أن تكون سيرة كل واحد منهم متميزة بهدى ومنهاج ، ليكون مجمل سيرهم المتنوعة ذخيرة غنية يرجع الناس إليها ليأخذوا منها ما يتناسب وظروفهم الخاصة .. وكانت سيرة الإمام علي بن الحسين (ع) الإيمانية هي المنهاج المتناسب كليّاً وظروف مشابهة لظروفنا في بعض البلاد حيث حبانا اللـه سبحانه بحالة ثورية تحتاج إلى المزيد من الروح الإيمانية حتى لاتخرج الحركة عن مسارها الديني ، ولا تفسد السياسة ومصالحها وحتمياتها النقاء الإيماني الذي يحتاجه العاملون في سبيل اللـه . فماذا كانت سيرته ، وماهو برنامجه ؟ أولاً : كان عباد اللـه المخلصون دعاة إلى اللـه بسلوكهم قبل أن يكونوا دعاة بألسنتهم ، فما أمروا الناس بشيء إلاّ وسبقوهم إليه . وكانت حياة الإمام السجاد (ع) لوحة إيمانية نقية ، وقد تحدثنا عنها في فصل آخر . وقال عنه جابر بن عبد اللـه الأنصاري الصحابي الشهير : ما رأيت في أولاد الأنبياء شخصاً كعلي بن الحسين (ع) . ثانياً : تربية جيل من العلماء الربانيين الذين ربوا بدورهم علماء وثائرين وعبّاداً صالحين . وهكذا تماوجت تعاليم الإمام عبر النفوس الزكية في حلقات مترامية كالصخرة العظيمة تُلقى في بحر واسع .. وكان في هؤلاء الرجال العرب والموالي ،ولكلٍّ قصة وتاريخ . فَدَعْنا نتزود من عبق سيرة حواري الإمام (ع) الذين كان أكثرهم من التابعين : ألف : كـــان سعيد بن جبير من أولئك التابعين الذين اقتبس من الإمـام زين العابديــــن (ع) روح الإيمـــان .. كان مثلاً في العبادة والإجتهاد كان يسمى بـ ( بصير العلماء ) ويقرأ القرآن في ركعتين ، وبلغ من علمه أنه اشتهر بين العلماء أنه ما على الأرض أحد إلاّ وهو محتاج إلى علمه (5) . واستشهد سعيد على يد طاغية العراق الحجاج . ويقول الإمام الصادق (ع) : " إن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن الحسين ، فكان علي يثني عليه . وما كان سبب قتل الحجاج له إلاّ على هذا الأمر ، وكان مستقيماً " (6) . ومن خلال حوار ساخن جرى بينه وبين جزار بني أمية الزنيم نعرف مدى استقامة هذا العالم الرباني . ذكر أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف قال له : أنت شقي بن كسير . قال : أُمي كانت أعرف بي ، سمتني سعيد بن جبير . وقيل إنه سأله كيف يفضل أن يقتله ؟ قال : اختر لنفسك ، قال وكيف ذلك ؟. قال : لأنه لاتقتلني بقتلة إلاّ وأقتلك بها يوم القيامة . باء : وكان عمرو بن عبد اللـه السبيعي الهمداني الذي يكنى بـ ( أبي إسحاق ) من ثقاة الإمام السجاد (ع) وبلغ من عبادته أن قيل عنه لم يكن في زمانه أعبد منه ، حيث كان يختم القرآن في كل ليلة . وقد صلى اربعين سنة صلاة الفجر بوضوء صلاة العتمة ، وكان محدثاً لا أوثق منه في الرواية عند الخاص والعام (7) . جيم : وكان الزهري عاملاً في بلاط الأمويين ، فعاقب رجلاً فمات في العقوبة ، فارتاع لذلك فخرج على وجهه هائماً ، واعتكف في غار تسع سنين ، فرآه الإمام السجاد (ع) وهو في طريقه إلى الحج ، فقال له : " إني أخاف عليك من قنوطك مالا أخاف عليك من ذنبك . فابعث بِدِيَةٍ مسلّمة إلى أهله ، واخرج إلى أهلك ومعالم دينك " . فقال له : فرّجتَ عني يا سيدي ، اللـه أعلم حيث يجعل رسالته . ورجع إلى بيته ، ولزم علي بن الحسين (ع) . وكان يعد من أصحابه . ولذلك قال له بعض بني مروان : يا زهري . ما فعل نبيك ، يعني علي بن الحسين ( . ومن هذه الرواية نعرف كيف كان اللـه يهدي الناس بالإمام حتى يصبح عامل بني أمية من كبار العلماء المعروفين عند كل الفرق الإسلامية كالزهري . دال : وكان سعيد بن المسيب بن حزن من كبار التابعين الذين ربَّاهم أمير المؤمنين (ع) ، والتزم خط آل البيت (ع) حتى كان من صفوة أصحاب الإمام السجّاد (ع) . وعنه قال : " سعيد بن المسيّب أعلم الناس بما تقدم من الآثار " (9) . وقـــد قال رجل لسعيد يوماً : ما رأيت رجلاً أورع من فلان ( وذكر اسم رجل من الناس ) فقال له سعيد : فهل رأيت علي بن الحسين ؟. قال : لا ، قال سعيد : ما رأيتُ رجلاً أورع منه (10) . ومثل هؤلاء طائفة كبيرة من كبار علماء الإسلام الذين أخذوا عن الإمام الزهد والتقوى ، والتفسير والحكمة والفقه ، حتى قال الشيخ المفيد : إنه روى عنه الفقهاء من العلوم مالا يحصى كثرة ، وحفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ماهو مشهور بين العلماء .. وقال ابن شهر اشوب : قلَّما يوجد كتاب زهد وموعظة لم يذكر فيه : قال علي بن الحسين ، أو قال زين العابدين (ع) (11) . وكان شديد الإحترام لطلبة العلوم الذين كانوا يتوافدون عليه في المدينة من أقطار العالم الإسلامي ، ويرى أنهم وصية رسول اللـه (ص) .. وكان العلماء يستلهمون من سلوكه الهدى والورع قبل أن يتلقوا من منطقه العلم والمعرفة ، ومن لايستلهم نور اللـه من تلك الطلعة الربانية ، من العين التي تفيض من خشيــــة اللـه ، والجبهة التي عليها ثفنات من أثر السجود ، من ذلك اللسان الذي لايني يذكر اللـه عزَّ وجــلَّ .. وبالتالي من تلك السيرة التي يشع منها نور اللـه تبارك وتعالى . يذكر عبد اللـه بن الحسن فيقول : كانت أمي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسيـن (ع) . فما جلست إليه قط إلاّ قمت بخير قد أفدته ، إما خشية لله تَحدث في قلبـــــي لما أرى مـن خشيته لله ، أو علم قد استفدته منه (12) . وكانت الفتوحات الإسلامية تطوي كل يوم بلداً جديداً ، وتضم إلى الجسد الإسلامي عضواً جدياً ، ولكنها كانت بحاجة إلى زخم إيماني يصهر مختلف الثقافات والتقاليد والمصالح في بوتقة الأُمة الواحدة . وقد تصدى الإمام زين العابدين (ع) وأصحابه وأنصاره لهذه المسؤولية وبسبل شتى . فقد كان شديد الإحترام للموالي ، وهم المنتمون إلى سائر الشعوب التي دخلت في الإسلام ، بعد فتح البلاد لها ، ولمّا تبلغ من المعارف الإلهية نصيباً كافياً . وكان كثير من الموالي من خيرة أصحاب الإمام (ع) . كما كان الإمام يتبع منهجاً فريداً في زرع القيم الإلهية في أفئدة ثلة مختارة منهم .. حيث كان يشتري العبيد ويتعامل معهم بأفضل طريقة ثم يُعتقهم ويزوِّدهم بما يوفر لهم الحياة الكريمة ، فيكون كل واحد منهم ركيزة إعلامية بين بني قومه .. ولنقرأ معاً أخلاق الإمام في تعامله مع مواليه قبل أن نعرف كيف كان يعتقهم ، فإن تلك الأخلاق الحسنة كانت مدرسة عملية لهم إلى جانب التوجيه المباشر . روي عن عبد الرزاق ( أحد الرواة ) أنه قال : جعَلت جارية لعلي بن الحسين (ع) تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه . فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية : إنّ اللـه يقول : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } (آل عمران/134) قال : كظمت غيظي ، قالت : { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } (آل عمران/134) قال لها : عفا اللـه عنك ، قالت : { وَاللـه يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ } ، (آل عمران/134) قال : اذهبي فأنت حرّة لوجه اللـه عزَّ وجلَّ (13) . هكــــذا كان يتعامـل مع الرقيق الذين اعتبرهم بعض الناس ذلك اليوم ان لهم طبيعة غير طبيعة الإنسان ، فكيف لا يؤثر فيهم ذلك الخلق الرفيع ؟. ويروي بعضهم القصة التالية التي تعكس مستوىً رفيعاً من الصفح والسماحة والإيثار ، تقول الرواية : كان عنده (ع) قوم أضياف ، فاستعجل خادماً له بشواءٍ كان في التنور ، فأقبل به الخادم مسرعاً فسقط السفود منه على رأس بُنَيٍّ لعلي بن الحسين تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله ، فقال عليٌّ للغلام وقد تحير الغلام واضطرب : " أنتَ حرٌّ ، فإنك لم تعتمده " ، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه (14) . وكـان له مولى يتولّى عمارة ضيعة له، فجاء فأصاب فيها فساداً وتضييعاً كثيـــراً. فغاظه ما رأى من ذلك وغمّه ، فقرع المولى بسوطٍ كان في يده وندمَ على ذلك ، فلما انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى فجاء فوجده عارياً والسوط بين يديه ، فظنّ أنّه يريد عقوبته ، فاشتد خوفه ، فقال له علي بن الحسين : " قد كان مني إليك مالم يتقدَّم مني مثلُه ، وكانت هفوة وزلَّة ، خذ ذلك السوط واقتصَّ مني " . فقال : يا مولاي واللـه إن ظننت إلاّ أنّك تريد عقوبتي ، وأنا مستحق للعقوبة . فكيف اقتصُّ منك ؟! قــال : " ويحك اقتصّ " ؟ قال : معاذ اللـه أنتَ في حلٍّ وسعة ، فكرَّر عليه ذلك مراراً والمولى يتعاظم قوله ويجلله ، فلما لم يره يقتص قال له : " أمّا إذا أبيتَ فالضيعة صدقة عليك " (15) . هذه نماذج من الخلق الكريم الذي اتّسَم به سلوك الإمام (ع) مع الموالي . وقد كان أسلوب عتق الإمام لهـــم متميزاً يرويه التاريخ بجلال وإعجاب . فقد روى ابن طاووس في كتاب شهر رمضان المعروف بالإقبال ، بسنده عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : كان علي بن الحسين (ع) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ، ولا أَمَة . وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان ، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه . فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ، ثم أظهر الكتاب ثم قال : يا فلان فعلت كذا وكذا ولم أؤذك أتذكر ذلك ؟ فيقول بلى يابن رسول اللـه . حتى يأتي على أخرهم ويقررهم جميعاً ثم يقوم وسطهم ويقول : ارفعوا أصواتكم وقولوا : يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كلَّ ما عملت كما أحصيت علينا ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها وتجد كلَّ ما عملت لديه حاضراً ، فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح ، فإنه يقول : وليعفوا وليصفحوا ، ألا تحبون أن يغفر اللـه لكم ، وهو ينادي بذلك على نفسه ويلقنهم وينادون معه وهو واقف بينهم يبكي ويقول : " ربَّنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا ، وقد عفونا عمن ظلمنا كما أمرت ، فاعف عنَّا فإنك أولى بذلك منَّا ومن المأمورين . إلهي كرمت فأكرمني إذ كنت من سؤالك وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم " . ثم يقبل عليهم فيقول قد عفوت عنكم ، فهل عفوتم عني ما كان مني إليكم من سوء ملكة فإني مليك سوء لئيم ظالم مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضل ؟. فيقولون : قد عفونا عنك يا سيدنا ، وما أسأت . فيقول لهم قولوا : اللـهم اعف عن علي بن الحسين كما عفا عنَّا وأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق . فيقولون ذلك ، فيقول : اللـهم آمين ربَّ العالمين ، اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاء للعفو عني وعتق رقبتي . فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس . وما من سنة إلاّ وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين نفساً إلى أقل أو أكثر . وكان يقول : إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف عتيق من النار ، كُلاًّ قد استوجب النار . فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثلما أعتق في جميعه . وإني لأحب أن يراني اللـه وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا ، رجاء أن يعتق رقبتي من النار . وما استخدم خادماً فوق حول . وكان إذا ملك عبداً في أول السنة أو في وسط السنة ، إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني ثم أعتقوا كذلك . ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة ، يأتي بهم عرفات فيسد بهم تلك الْفُرج فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم وجوائز لهم من المال. ــــــــــــــــــــــ (1) اعتمدنا في بعض ما ذكرنا على رواية مأثورة عن الإمام الرضا (ع) في بحار الأنوار ( ج 46 ، ص حيث ذكر ان حادثة أسر بنات يزدجرد كانت في عهد عثمان خلافاً لبعض الروايات التي ترى أنها وقعت في عهد عمر ، وهي بعيدة عن السياق التاريخي لمجمل الأحداث كفتح خراسان وتاريخ ولادة الإمام زين العابدين وما أشبه .. (2) ناسخ التواريخ : ( ج 2 ، ص 140 ) . (3) المصدر : ( ص 141 ) . (4) عوالم العلوم : ( ج 18 ، ص 179 ) . (5) المصدر : ( ص 280 ) . (6) المصدر : ( ص 182 ) . (7) عوالم العلوم : ( ج 18 ، ص 281 ) . ( المصدر : ( ص 282 ) . (9) بحار الأنوار : ( ج 46 ، ص 133 ) . (10) عوالم العلوم ( ج 18 ، ص 283 ) . (11) في رحاب أئمة أهل البيت : ( ج 3 ، ص 196 ) . (12) المصدر : ( ص 196 ) . (13) المصدر : ( ص 198 ) . (14) المصدر : ( ص 199 ) . (15) المصدر .