احتياج الظلمة إلى جعل الأحاديث
كما نعلم، فإن الحكام الظالمين كانوا يرون في جذب قلوب الناس إليهم أهم عامل في بقاء ملكهم وسلطانهم، إذ لم يكن الفاصل الزمني بين الناس وبين صدر الإسلام كبيراً، وبالتالي كان إيمان الناس بالإسلام لا يزال قوياً.
وهم ـ الناس ـ إذا أدركوا أن البيعة التي قدموها للحكام ليست صحيحة، وأن هذا الظالم لا يجوز أن يكون خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لو أدركوا ذلك فبالتأكيد لن يرضوا أن يسلّموا قيادهم بتاتاً، وحتى لو قلنا ان هذا الأمر لا يشمل الجميع، فعلى الأقل نقول: القدر المسلّم به أن الكثيرين كانوا يتحملون الوضع المنافي للإسلام في الجهاز الحاكم نتيجة الإيمان القلبي، إذ انهم كانوا يظنون أن هذا وضع إسلامي.
ولإبقاء هذه الضبابية في أذهان الناس كان حكام الجور يستغلون المحدثين وعلماء الدين قدر الامكان ويحركونهم طبقاً لمصالحهم فيطلبون منهم وضع الأحاديث واختلاقها ونسبتها إلى رسول الله (ص) والصحابة الكبار بما يوافق ميولهم وأهواءهم.
نماذج من اختلاق الحديث:
في هذا المجال يوجد موارد تقشعر منها الأبدان. ونحن ننقل بعضها كمثال:
ـ في زمن معاوية، التقى شخص بكعب الاحبار، ولأن كعباً كانت له صِلات حميمة مع معاوية سأل ذلك الشخص: من أين أنت؟
قال: من أهل الشام.
قال له: لعلك من ذلك الجيش الذي يدخل منه 70 الف جندي إلى الجنة بدون حساب.
قال: من هم هؤلاء؟!
قال: أنهم أهل دمشق.
قال: كلا، لست من أهل دمشق.
قال كعب: اذن، لعلك من ذلك الجيش الذي ينظر الله إليه كل يوم مرتين(!!).
ـ من هم هؤلاء؟!
ـ أهل فلسطين.
وربما لو قال ذلك الشخص انني لست من أهل فلسطين، لأخبره كعب الاحبار أحاديث عن كل من أهالي بعلبك وطرابلس وبقية مدن الشام بحيث يبيّن له أن أهل الشام هم الافضل. وأنهم أهل الجنة.
وكعب الاحبار كان يختلق هذه الاحاديث ويضعها إما تملقاً لأمراء الشام حتى يكون نصيبه أكثر ومنزلته في قلوبهم أعلى، وإما بسبب العداء المتجذر في نفسه للإسلام وبغية تدمير الاساس العظيم لأحاديث رسول الله (ص).
ويوجد في كتب التذكرات والرجال والحديث الكثير من هذه القصص. منها قصة ذلك الأمير الذي ارسل ابنه إلى المدرسة (الكتّاب) وهناك ضربه المدرس. عندما رجع الابن باكياً إلى أبيه وأخبره، غضب الاب وقال: سأذهب وأضع حديثاً على هذه المدرسة حتى لا يكرروا فعلتهم هذه.
ومن هذه القصة نعلم كم كان سهلاً اختلاق الاحاديث عندهم، حتى لو كان بدافع العصبية والشفقة على دموع الطفل.
وعلى أيّ حال فقد كان لهذا الوضع اثر في ايجاد ذهنية وثقافة منحرفة عن الإسلام. وكان السبب في ذلك أولئك المحدثون والعلماء العاملون في خدمة السلاطين والاقوياء.
وفي هذا الوضع تعتبر مواجهة هؤلاء عملاً في غاية الأهمية.
بعض الاحاديث المختلقة من محمد الزهري:
يوجد هنا نموذج يبين كيفية مواجهة الإمام السجاد (ع) لهذا الوضع:
تربط هذه المواجهة بمواجهة الإمام لمحمد بن شهاب الزهري.
كان محمد بن شهاب الزهري في البداية أحد تلامذة الإمام السجاد (ع) المقربين، أي أنه من جملة الذين تعلموا علومهم ونقلوا الاحاديث عن الإمام، ولكن بالتدريج ـ بسبب التجرؤ الذي كان فيه ـ اقترب من نظام الحكم حتى صار أحد أعوانه وتحوّل إلى واحدٍ من الذين واجهوا الإمام.
ولأجل أن نطلع أكثر على وضع الزهري،ننقل عدة أحاديث بشأنه:
أحد هذه الأحاديث، ما جاء عنه: (كنا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء فرأينا أن لا يمنعه أحد من المسلمين).
ويفهم من هذا الحديث أنه حتى ذلك الزمان لم يكن متعارفاً بين هذه الطائفة من المحدثين بأن كل ما يعلمونه من الاحاديث ينبغي ان يكتبوه، وكذلك يتضح ان محمد بن شهاب الزهري كان في خدمة الامراء وأنه كان يُحمل على كتابة الاحاديث التي تناسبهم.
أحدهم ويدعى (معمر) كان يقول: كنا نظن اننا قد نقلنا من الزهري أحاديث كثيرةً إلى ان قتل الوليد. فعندها رأينا كتباً كثيرةً تحمل على ظهور الدواب وتخرج من خزائن الوليد ويقال: هذا علم الزهري: أي أن الزهري وضع من الاحاديث التي تناسب الوليد وأهواءه ما عجزت عن حمله الرجال. ماذا تتصورون ان تكون تلك الاحاديث؟ مما لا شك فيه أنها لا تدين الوليد وإنما تؤيد أعماله وتصحّحها.
ويوجد حديث آخر يتعلق بفترة ارتباط الزهري بالنظام الحاكم. فقد روى اليعقوبي في تاريخه:
"ان الزهري نسب إلى رسول الله (ص) أنه قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الاقصى. وأن الصخرة التي وضع رسول الله قدمه عليها تقوم مقام الكعبة".
ويعود هذا الحديث إلى ذلك الزمان الذي كان عبدالله بن الزبير حاكماً على مكة، والناس الذين يريدون الحج بطبيعة الحال لابد وأن يدخلوا مكة ـ وهي تحت نفوذ ابن الزبير ـ وكانت تلك الايام فرصة مناسبة له للتبليغ ضد أعدائه ـ وخاصة عبدالملك بن مروان ـ، ومن جانب آخر بما ان عبدالملك كان يدرك خطورة هذا الأمر، ولكي يمنع الناس من الذهاب إلى مكة، رأى أن أفضل الطرق هو وضع أحاديث تبيّن أن شرافة القدس بمنزلة شرافة مكة. ونحن نعلم ـ في العرف والثقافة الإسلامية ـ أنه لا توجد منطقة في العالم توازي الكعبة شرفاً ومكانة ولا يوجد حجر في الدنيا يضاهي الحجر الاسود. فكانت تلك الاحاديث المجعولة وسيلة لعبد عبدالملك لكي يدفع الناس للذهاب إلى المسجد الاقصى الذي كان تحت نفوذه بدلاً من مكة المكرمة.
فإلى أي مدى كان لهذه الاحاديث تأثير في نفوس الناس وأفعالهم؟! وهل حدث في زمن ما أن الناس حجوا إلى بيت المقدس بدلاً من مكة ام لا؟! ولو حدث ذلك لكان ينبغي أن نعد المجرم الاصلي أو أحد المجرمين (محمد بن شهاب الزهري) الذي حرف الأمر في أذهان الناس لأجل مآرب عبدالملك السياسية.
وعندما يصبح الزهري تابعاً لجهاز الخلافة، فلم يمنعه شيء من وضع الأحاديث ضد الإمام السجاد (ع) والتنظيمات العلوية. منها ما وجدته في كتاب "اجوبة مسائل جار الله" ـ تأليف المرحوم السيد عبدالحسين شرف الدين ـ حيث يدعي الزهري في رواية أن أمير المؤمنين كان جبرياً، ونسب إلى الرسول (ص) انه قال في معنى الإنسان في الآية: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} انه أمير المؤمنين (ع) (والعياذ بالله).
وفي رواية أخرى ينقل أن حمزة سيد الشهداء كان شارب خمر. وانما جعل هاتين الروايتين لدعم الجبهة السياسية ـ لعبدالملك وبني أمية ـ مقابل أئمة الهدى (عليهم السلام)، وبالتالي لنسف صورتهم بعنوان أنهم المسلمون الاوائل، ويعرفهم على أنهم مثل غيرهم من العوام والمقصرين في تطبيق احكام الدين.
وهذه الرواية تشير إلى وضعية محمد بن شهاب الزهري في مرحلة التبعية والارتباط ببلاط الحكم. ومن يطالع في اوضاعه الاجتماعية والفكرية يتبين له شخصيته بشكل واضح. وانا أترك هذا الأمر إلى كتب الرجال.
حسناً، مثل هذا الشخص الذي يتمتع بنفوذٍ ومنزلة عالية في جهاز الحكم وبين الناس، لا شك أنه موجود خطِر على الثورة الإسلامية، وينبغي أن يُتخذ موقف بشأنه.
الموقف الشديد للإمام السجاد (ع) من علماء البلاط
بالنسبة للزهري وأمثاله فقد وقف الإمام السجاد (ع) موقفاً حازماً وقاسياً جداً حيث يلحظ هذا من خلال الرسالة التي وجّهها إليه.
وقد يتساءل البعض إلى أي مدى يمكن أن تعكس (رسالة) هذا الموقف الشديد، ولكن بالالتفات إلى شدة اللهجة في مضمون هذه الرسالة الموجّهة إلى نفس الزهري، وكذلك بالنسبة للجهاز الحاكم وأنها لا تنحصر بمحمد بن شهاب بل كانت تقع في أيدي الآخرين وتتنقل عبر الألسن وتبقى عبر التاريخ ـ كما حصل فاليوم بعد أكثر من1300 سنة نحن نتناولها بالبحث ـ بالالتفات إلى هذه الأمور، يمكن أن ندرك مدى حجم الضربة التي وجهت للقداسة الشيطانية والاصطناعية لمثل أولئك العلماء. لقد كانت الرسالة خطاباً لمحمد بن شهاب ولكنها نالت من أشخاص آخرين على شاكلته.
ومن المعلوم أن هذه الرسالة عندما تقع بأيدي المسلمين وبالأخص شيعة ذلك العصر وتتنقل عبر الأيدي، فأي سقوط لهيبة هؤلاء ومكانتهم في الأعين!!
وهنا ننقل مقاطع من هذه الرسالة:
في البداية يقول (ع): (كفانا الله وإيّاك من الفتن ورحمك من النار).
في الجزء الثاني من هذه الجملة نجده يخصه بالخطاب، لماذا؟ لأن كل إنسان يتعرض للفتن حتى الإمام السجاد (ع) بدون أن يسقط فيها، ومحمد بن شهاب يتعرض للفتنة ولكنه سقط، أما بالنسبة لنار جهنم فإنها لا تقترب من الإمام زين العابدين (ع)، ولهذا خصّ الكلام هنا بالزهري. وابتداء الرسالة بمثل هذه اللهجة دليل على تعامل الإمام معه بطريقة تحقير ومعاداة.
ثم يقول (ع): (فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك).
ودققوا هنا في هذه الجملة، لمن الخطاب فيها؟
إنما موجّهة لشخص يغبطه الجميع على حاله، فهو أحد العلماء الكبار المقربين للنظام الحاكم، بينما نجد الإمام عليه السلام يبيّنه ضعيفاً ووضيعاً.
بعد ذلك يشير الإمام إلى النعم التي حباه الله بها والحجج التي أتمها عليه ثم يقول أنه مع وجود تلك النعم من الله، هل تستطيع أن تقول كيف قد أدّيت شكرها؟
ويذكر جملة من آيات القرآن ويقول أن الله تعالى لن يرضى أبداً عن قصورك وتقصيرك، لأنه سبحانه قد أمر العلماء بتبيين الحقائق للناس: (لتبيّننه للناس ولا تكتمونه).
وبعد هذه المقدمة يحمل عليه بطريقة قاسية جداً بقوله (ع):
(واعلم أن أدنى ما كتمت، وأخف ما احتملت، أن آنست وحشة الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت وأجابتك له حين دعيت).
ويظهر هذا الكلام الذي يطرحه الإمام بشكل واضح من ارتباطه بجهاز السلطة كالسوط الذي ينهال على رأسه.
(إنك أخذت ما ليس لك ممن أعطاك، ودنوت ممن لم يردّ على أحد حقاً ولم تردّ باطلاً حين أدناك).
(وهو الخليفة الظالم) فبأي عذر تبرر عدم إرجاعك للحقوق الضائعة وإزالة المظالم الكثيرة. (وأحببت من حاد الله).
والجملة الشديد التأثير للإمام ما نقرأها في هذه الفقرة، حيث يقول (ع):
(أوليس بدعائه إياك ـ حين دعاك ـ جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليه إلى بلاياهم، وسلماً إلى ضلالتهم داعياً إلى غيّهم سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم).
ثم يقول:
(فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلاّ دون ما بلغت من إصلاح فسادهم).
وفي هذه الرسالة الشديدة اللهجة والكبيرة المضمون يفضح الإمام السجاد تلك الحركة السياسية التي استغلت الفكر والعلم. وأولئك الذين قبلوا مهادنة النظام أصبحوا مطالبين بالإجابة عن السؤال الذي بقي في المجتمع الإسلامي وسوف يبقى عبر التاريخ.
إنني أعتبر هذا أحد مراحل حياة الإمام السجاد (ع) المهمة، وأشعر بأنه عليه السلام لم يكتف بتحرك علمي وتربوي محدودين بين جماعة خاصة بل قام بحركة سياسية. وبالطبع يوجد قسم آخر في هذا المجال يتعلق بالشعر والشعراء سوف نتعرض له فيما بعد.
أحد مفاصل حياة الإمام السجاد عليه السلام هو ما يتعلق بمواجهته للنظام الحاكم.
وقد أشرت بشكل مختصر في الأبحاث السابقة إلى هذا الأمر وهنا أقدم شرحاً إضافياً:
تكتيك بداية المرحلة الثالثة لحركة الإمام (ع):
بالمقدار الذي اطلعت فيه على حياة الإمام السجاد (ع) والذي مازلت أذكره أنه لا يوجد مواجهة أو تعريض صريح وقاطع ضد الحكم من قبيل ما نشاهده في حياة بعض الأئمة الآخرين، كالإمام الصادق في عصر بني أمية، أو الإمام موسى بن جعفر (ع).
وسببه واضح، لأن مثل هذا التحرك الشديد في بداية حركة الأئمة (ع) في المرحلة الثالثة من المراحل الأربع للإمامة، والتي تبدأ في حياة الإمام السجاد، سوف يعرّض قافلة أهل البيت (ع) التي تحمل أعباء مسؤولية الرسالة للخطر الذي لا يؤدي إلى تحقيق المقصد. ففي ذلك الوقت لم يكن بستان أهل البيت الذي يتعهد الإمام السجاد (ع) بترتيبه وسقايته استحكمت غصونه وأشجاره.
وكما أشرت في بداية هذا البحث، فقد كان عدد المحبين والموالين لأهل البيت (ع) قليلاً جداً، وفي ذلك العصر لم يكن ممكناً على أولئك الذين سيتحملون مسؤولية التنظيمات الشيعية أن يواجهوا خطر العدو الجائر.
وإذا أردنا أن نمثل، ينبغي أن نشبّه عصر الإمام السجاد (ع) هذا بمرحلة بدء الدعوة الإسلامية في مكة وهي المرحلة السرية. ولعله يمكن تشبيه عصر الإمام الباقر (ع) بالمرحلة الثانية في مكة حين أصبحت الدعوة علنية. ولهذا فإن المواجهة في تلك المرحلة لن تكون سليمة.
ومما لا شك فيه أننا إذا لاحظنا المواجهات الحادة في بعض كلمات الإمام الصادق والإمام الكاظم والإمام الثامن (ع) فيما لو صدرت عن الإمام السجاد (ع)، فإن عبد الملك بن مروان الذي كان في أوج قدرته كان يستطيع وبكل سهولة أن يطوي بساط تعاليم أهل البيت (ع) ليبدأ العمل من جديد، وهذا ليس عملاً عقلائياً. لكن على كل حال، يمكن أن نشاهد في ثنايا كلمات الإمام زين العابدين (ع) والتي ترجع على وجه الاحتمال إلى أواخر حياته الشريفة، إشارات أو مظاهر لتعرّضه ومواجهته لنظام الحكم.
أمثلة من مواجهة الإمام (ع):
كانت تلك المواجهات تظهر بعدة أشكال. وأحد أشكالها هو ما لاحظناه في تعامل الإمام السجاد (ع) مع محمد بن شهاب الزهري. والشكل الآخر يظهر من خلال بيان موقف ومكانة الخلفاء الأمويين على ضوء التعاليم والإشارات الدينية العادية. ويوجد حديث عن الإمام الصادق (ع) يقول فيه: (إن بني أمية أطلقوا للناس الإيمان ولم يطلقوا الشرك حتى إذا حملوهم عليه لم يعرفوه).
فبنو أمية كانوا يسمحون للعلماء وأهل الدين، ومن جملتهم الأئمة عليهم السلام، بالتحدث حول الصلاة والحج والزكاة والصيام والعبادات، وكذلك حول التوحيد والنبوة والأحكام الإلهية. لكنهم لم يسمحوا بالبحث في مفهوم الشرك ومصاديقه وأمثلته في المجتمع، تلك التعاليم المرتبطة بالشرك لو درّست للناس، لفهموا مباشرة من هم المشركون، وأن ما يحملهم عليه بنو أمية ليس إلاّ الشرك، ولعلموا فوراً أن عبد الملك والخلفاء الباقين من بني أمية هم طواغيت يبارزون الله، وأن إطاعتهم تعد شركاً بالله. ولهذا لم يكونوا ليسمحوا للناس بتعلّم هذه المفاهيم.
نحن عندما نبحث في الدين الإسلامي حول التوحيد، فإن قسماً مهماً من هذا البحث يرتبط بمعرفة الشرك. ما هو الصنم، ومن هو المشرك؟
وللمرحوم العلامة المجلسي (ره) في بحار الأنوار، الجزء 48، نص رائع يقول فيه: (إن آيات الشرك ظاهرها في الأصنام الظاهرة وباطنها في خلفاء الجور الذين أشركوا مع أئمة الحق ونصبوا مكانهم).
فأئمة الحق هم خلفاء الله، وهم ينطقون عن الله، ولأن خلفاء الجور قد نصبوا أنفسهم مكانهم وادّعوا الإمامة، فقد أصبحوا أصناماً وطواغيت، وكل من يطيعهم فهو في الحقيقة مشرك بالله.
وللعلامة بعد هذه شرح قيّم؛ فهو يبيّن أن الآيات القرآنية ليست مختصة بعصر الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، بل هي سارية وجارية في كل العصور والأزمان، يقول (ره):
(فهو يجري في أقوام تركوا طاعة أئمة الحق واتّبعوا أئمة الجور لعدولهم عن الأدلة العقلية والنقلية واتّباعهم الأهواء، وعدولهم عن النصوص الجلية).
ومن هنا نرى أن الأئمة (ع) إذا أرادوا أن يبيّنوا حقيقة الشرك فإنهم بذلك يقومون بما يشبه المواجهة مع نظام الحكم، وهذا ما يظهر في كلمات الإمام السجاد (ع).
ونموذج آخر من تلك الأمثلة في المواجهة ما نشاهده في المكاتبات والرسائل بين الإمام السجاد (ع) وعبد الملك (الخليفة الأموي المتجبّر)، أشير إلى اثنين منهما هنا:
1ـ في إحدى المرات يكتب عبد الملك رسالة إلى الإمام السجاد (ع) يلومه فيها على زواجه من إحدى جواريه. وكان للإمام جارية أعتقها ثم تزوّجها. فشمت منه عبد الملك. وكان عمل الإمام عملاً إنسانياً وإسلامياً صرفاً. ولكن دافع عبد الملك من تلك الرسالة هو التعرض للإمام، وإفهامه بأنه مطلع على مسائله الخاصة، موجّهاً له بذلك تهديداً ضمنياً. فأجابه الإمام عليه السلام برسالة بدأها بتوجيه أمر الزواج وأن العظام يفعلون مثل هذا الأمر، وأن رسول الله (ص) قد قام به: (فلا لؤم على امرئ مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية). وهو يريد أن يذكره بسوابق أجداده في الجاهلية (من كفرهم وعنادهم)..
عندما وصلت الرسالة إلى عبد الملك، كان ابنه سليمان حاضراً. وعندما قرأها سمعه، وسمع ذمّ الإمام وأحسّ به مثل أبيه، فالتفت إليه قائلاً: يا أمير المؤمنين! أترى كيف يتفاخر عليك علي بن الحسين؟ يريد بذلك أن يحرض والده على رد فعل قاس. ولكن عبد الملك كان أعقل من ولده، فقال له: لا تقل شيئاً يا ولدي! فهذا لسان بني هاشم الذي يفلق الصخر. (أي أن استدلالهم قوي وقاس).
2ـ النموذج الثاني: المراسلة الأخرى التي تمت بين الإمام وعبد الملك، ومجرياتها:
علم عبد الملك أن سيف رسول الله (ص) موجود عند الإمام. وكان هذا أمراً ملفتاً وباعثاً على التفاخر. وكذلك فإن وجوده يعد خطراً على الخليفة. لأنه يجلب أنظار الناس إليه، فكتب إليه يطلب منه تسليم السيف، ووعده بإنجاز ما يريد.
وردّ عليه الإمام، فأعاد عبد الملك مرة ثانية تهديده بوقف حصة الإمام من بيت المال إن لم يرسل السيف. فأجابه الإمام:
(أما بعد، فإن الله تعالى وعد عباده المتقين بنجاتهم من المحن {ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}، وقال: {إن الله لا يحب كل خوّان كفور}. فانظر أيّنا ينطبق عليه الكلام).
وهذه لهجة قاسية جداً أمام الخليفة، لأن تلك الرسالة إذا وقعت بيد أي إنسان فسوف يعلم أولاً: أن الإمام لا يعد نفسه خواناً.
ثانياً: لا يتصور أحد هذا الأمر بحق هذا الإنسان الجليل الذي تربى في بيت آل الرسول وهذا يعني: أنك أنت الخليفة خوّان وكفور. وإلى هذا الحد كان الإمام شديداً مقابل التهديد.
كانت هذه نماذج من مواجهة الإمام للحكم، وإذا أردنا أن نضيف نموذجاً آخر ينبغي أن ننظر إلى الأشعار التي نقلت عن الإمام السجاد أوعن أصحابه ومحبّيه، فهي تمثل نوعاً آخر من المواجهة.
مواجهة الفرزدق ويحيى:
للإمام اشعار لم استطع العثور عليها ولكن مما لا شك أنها موجودة وهي في غاية القوة والتحدي والثورة. ويمكن اعتبار شعر الفرزدق نموذجاً آخر. وقد نقل المؤرخون والمحدثون هذه القصة وخلاصتها:
عندما قدم هشام بن عبدالملك قبل فترة خلافته إلى الحج وأثناء الطواف أراد أن يتقدم لاستلام الحجر الأسود، ولكن العدد الهائل والازدحام الكبير منعه من الوصول، وكلما حاول أن يوصل نفسه مع أنه كان ابن الخليفة ومحاطاً بالمرافقين والحواشي، ولكن الناس كانوا يمرّون من حوله بدون اكتراث فيئس من استلام الحجر وقعد جانباً منتظراً انصراف الناس، وكان أصحابه جالسين حوله. وفي هذه الاثناء يمر رجل يعلوه الوقار والهيبة، سيماه سيماء الزاهدين ووجهه وجه الملكوتيين، يسطع من بين الحجاج كالشمس، فتنحى الناس له جانباً ليمرّ من بينهم ويصل إلى الحجر الأسود، فقبلّه ثم رجع للطواف مجدّداً.
فصعب ذلك على هشام كثيراً، وهو يرى نفسه ابن الخليفة ولا أحد يعطيه أية قيمة، بل يبعدونه بالركل والمطاحنة، ثمّ من جانب آخر يظهر رجل يصل إلى الحجر الاسود بكل هدوء. فسأل غاضباً: من هذا؟ وكان حواشيه يعرفون أنه علي بن الحسين (ع)، ولكن لئلاّ يغضب منهم، لم يقولوا شيئاً، لأنهم يعلمون وجود العداوة ما بين بني أمية وبني هاشم، فلم يريدوا ان يقولوا أن هذا كبير العائلة المعادية لكم، والناس يظهرون له كل هذا الحب والاحترام، لأنهم اعتبروا ذلك نوعاً من الإهانة لهشام.
كان الشاعر الفرزدق من المحبيّن لأهل البيت حاضراً هناك، وقد رأى تجاهلهم من إظهارهم لعدم معرفة علي بن الحسين(ع) فتقدم قائلاً: أيها الأمير، لو تسمح لي بأن أعرفه لك.
فقال هشام: قل. فانطلق لسان الفرزدق بقصيدة من أشهر القصائد الشعرية التي قيلت بحق أهل البيت، وبدأها بهذا البيت:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد خُتموا
وكانت أبيات هذه القصيدة كوقع السيوف على قلب هشام فغضب منه وطرده، وأرسل إليه الإمام علي بن الحسين (ع) مالاً فلم يقبله وقال: "ما قلته إلاّ لله ولا أريد مالاً".
وهكذا نشاهد مثل هذه المواجهات من بين أصحاب الإمام.
ونموذج آخر ما قام به يحيى ابن أم الطويل وهو ليس شعراً.
كان يحيى ابن أم الطويل من الشباب الشديدي الشجاعة والمخلصين لأهل البيت، وكان يذهب دائماً إلى الكوفة ويجمع الناس ويصرخ: فيهم أيها الناس، إنني كافر بكم، ولا أقبل بكم حتى تؤمنوا بالله. وهو يقصد أولئك الذين كانوا يتبعون بني أمية.
تعرض بني أمية للإمام السجاد (ع):
كان هذا مختصراً لحياة الإمام السجاد (ع)، وأشير هنا طبعاً إلى نقطة، فعلى رغم أن مرحلة إمامة الإمام السجاد (ع) قد امتدت إلى أكثر من 34 سنة كانت بعيدة عن المواجهة المباشرة للنظام الحاكم إلاّ أنه قد تمّ نشر بساط الإمامة الواسع وتعليم وتربية العديد من الافراد المؤمنين والمخلصين وتوضيح دعوة أهل البيت (ع)، وهذا ما جعل بني أمية يمقتون الإمام ويتعرضون له. وكانوا من قبل قد جروه بالاصفاد والأغلال ـ ولم يكن هذا ما حدث في كربلاء، وإنما في زمن آخر بعدها ـ وقد تعرّضوا له في موارد عديدة، وآذاه أعوانهم حتى وصل بهم الأمر سنة95 للهجرة في زمن الوليد بن عبدالملك إلى أن سمّوه، فسما إلى جوار ربه شهيداً.
من كتاب سيرة الإمام السجّاد عليه السلام
تأليف
السيد علي الحسيني الخامنئي