بلاغات الحياة الحقيقيّة
إيضاح
عاشوراء مجلى "عمق الحياة وجوهرها"، فالحياة ليست صعود الأنفاس ونزولها فحسب، والحياة لا تنحصر في عالم هذه الدنيا...
إنّ معرفة الجوهرة الخالصة للحياة الإنسانية تتجلّى في ظلّ عاشوراء، ذلك لأنّ تساؤلات من مثل: ما هي "الحياة الطيّبة" ؟ والحياة الأبدية مع ماذا؟ وكيف يمكن الفوز بـ"السعادة الخالدة" من خلال عبور مرحلة الموت؟ ومع أيّ شيء وفي أيّ شيء تكون السعادة، والعزّة والشخصية والحياة والعمر الحقيقي والانتصار؟ وما هو المعيار الذي يمكن به معرفة الحياة الفرديّة والاجتماعيّة أو الموت الفردي والاجتماعي؟ وما هو دور"العقيدة" و"الإيمان" وأثرهما في تحديد اتجاه وشكل مساعي الإنسان؟ وما هو الحدّ المائز بين "الحياة الإنسانيّة" و"الحياة الحيوانية" ؟ وغير ذلك من أمثال هذه التساؤلات تتحقّق الإجابة عنها في "عاشوراء"، ذلك لأنّ بلاغ عاشوراء هو أنّ الحياة العزيزة الكريمة في الدنيا والفوز بالحياة الأفضل في الآخرة إنّما يتحققان في ظلّ الجهاد والشهادة في سبيل الله والحقّ والعقيدة الإلهيّة، ذلك المسار الذي تنجو به الحياة الإنسانيّة من أن تكون جوفاء بلا معنى.
من أهمّ الأسئلة التي تشغل ذهن وقلب الإنسان الفطن الملتزم هو "كيف يجب أن أحيا؟"، وجواب هذا السؤال لا يتّضح إلّا إذا اتضّح الجواب عن هذا السؤال: "لماذا نحيا؟" ذلك لأنّ "كميّة" الحياة هي التي تحدّد اتجاه "كيفية" الحياة في الواقع.
أمّا أولئك الذين يرتضون أن يحيوا حياة حيوانية حقيرة قانعين بها، ولا يحاولون الارتقاء إلى معرفة عليا للحياة، وليس من شأنهم التفكير في الآفاق البعيدة، فإنّ
علَّة حقارة أنفسهم وحياتهم أنّهم لم يعرفوا "فلسفة الحياة"، فتوهّموا أنّ الحياة محصورة بين الولادة والموت، بل لم يعرفوا منها إلّا بعدها الماديّ فحسب.
مفهوم الحياة
يقاس العمر الأصلي للإنسان بالأعمال الصالحة التي عملها في فترة حياته، ولا يقاس عمره بعدد السنين التي عاشها، فالعمر هو العمر العملي وليس العمر الزمني، أي أنّ ما أنفقه الإنسان من رأسمال وذخيرة هذه الدنيا لإعمار آخرته هو بذاته ميزان العمر الحقيقي للإنسان.
إنّ المعرفة بالدنيا تزيد أيضاً في بصيرة الإنسان العملية في الحياة، وتصحّح له توجّهاته، فترى همّ من لا بصيرة له منصبّاً على هذه الدنيا الفانية، فكلّ سعيه لها، وهو من الخاسرين، أمّا أهل البصائر فكلّ همّهم في أمر الآخرة، فهم يسعون لها حقّ سعيها، وهم الفائزون.
ونرى الإمام الحسين عليه السلام يصف هذه الدنيا الفانية المتقلّبة بأهلها- لمّا حوصر ومن معه من قبل جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ- قائلاً: "... وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها، واستمرّت حذاء، ولم تبق منها إلّا صبابة كصُبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل..."1.
وهذه النظرة تبتعث الشوق إلى لقاء الله تعالى وإلى الآخرة، إذ إنَّ الحياة الدنيا تحت سلطة الجبابرة الظالمين- على أساس هذه النظرة- اختناق وبرم، والموت المؤدّي إلى الخلاص منها- قتلاً- فوز وسعادة: ".. ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة،
والحياة مع الظالمين إلّا برما"2.
ونفس هذه الحياة المُرَّة الوضيعة المنغَّصة يراها عمي القلوب من عبّاد الدنيا وطلاّبها حلوة هنيئة!! ويحرصون على بقائها حتّى مع الذلّ والهوان والصغار!!
أمّا الحياة في نظر أولياء الله- وقد تجلّت في أروع مظاهرها في عاشوراء- فهي جهاد في سبيل العقيدة، موت في سبيل العزّة والشرف، وشهادة في سبيل الله، هؤلاء الأولياء لبصيرتهم النافذة بالحياة ومعرفتهم العليا بمعناها الأسمى يرون الحياة الذليلة برماً وسبب عناء وعذاب ولا يمكن تحمّلها مطلقاً.
العقيدة والحياة
تكون الحياة مظهراً للكمال والحقيقة إذا أقامها الإنسان وعاشها على أساس المعتقدات الصحيحة الحقّة، لكنّنا نجد في النّاس من ليس له عقيدة صحيحة يحيا بها، ونجد أيضاً بعضاً آخر من النّاس من لا يقيم حياته على أساس العقائد الخالصة الصحيحة مع معرفته بها، ويعمل خلافاً لما يعتقد به، وهذا ناشىء إمّا من حالة نفاقية، أو من ضعف النفس وفقدان الإرادة.
وفي عاشوراء كان ما شهده معسكر الإمام الحسين عليه السلام في كلّ حركة وسكنة لأبطال ملحمة عاشوراء تجسيداً لتأثير العقيدة في العمل، إذ بدافع من إيمانهم بالله الأحد الصمد كانوا يلتمسون مرضاته ويطلبونها حتّى مع الشهادة، وبدافع من يقينهم بالمعاد كان كلّ همّهم في الفوز بالسعادة الأُخروية، حتّى وإنْ كان ثمن ذلك في دنياهم أن يُقتلوا وأن تُؤسر عوائلهم.
أمّا ما شهده معسكر ابن زياد في كربلاء من ازدواجيّة في شخصيات أفراده، ومن تقلّب في الانتماء، ومن نقض للبيعة والميثاق، ومن تألّبٍ وتآزرٍ على حرب ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإمام الحقّ عليه السلام، فقد كان تجسيداً ونتيجة لضعف عقيدة أولئك الظلمة أو لقوّة تعلّقهم بالدنيا.
ولا شكّ أنّ هناك بعضاً من النّاس أيضاً يصرّون على الدفاع عن عقائدهم الخاطئة
جهلاً وتعصّباً حتّى وإنْ قتلوا في هذا السبيل وكانت عاقبة أمرهم الخسران في الدنيا والآخرة. أمّا ما هو نفيس وعزيز فالجهاد والكفاح في سبيل العقائد الحقّة والمتبنّيات الصحيحة، والقول المعروف "إنّ الحياة عقيدة وجهاد" يمكن القبول به إذا كان المراد بالعقيدة الحقّة الصحيحة ليكون من الحقّ أنّ كمال الحياة هو الجهاد في سبيل تلك العقيدة الحقّة أيضاً.
الإختيار
مزجت طينة الإنسان بالقدرة على الاختيار، ذلك من فطرة الله التي فطر النّاس عليها ولا تبديل لخلق الله، فالإنسان مسؤول عن اختياره طريق الحقّ أو طريق الباطل، سبيل الخير أو سبيل الشرّ، نجْد السعادة أو نجْد الشقاء، الإنسان مسؤول أمام الله تعالى عن هذه القدرة على الاختيار الّتي هي "أمانة إلهيّة" عنده3.
إنّ البعد الفردي والبعد الاجتماعي في شخصية كلّ إنسان، وسعادته وشقوته، وجنّته وجهنّمه، رهن نوع اختياره في هذه الحياة، والإنسان في كلّ لحظة من لحظات حياته عرضة لأحد الاختبارات الإلهيّة، يمتحنه الله ليعلم أيّ سبيل يختار من السبل المختلفة؟ ولأيّ نداء يستجيب؟ لنداء "العقل" و"الآخرة" ؟ أم لنداء "النفس" و"إغراءات الدنيا" ؟ لنداء "الأعمال الصالحة" أم لنداء "المصالح الذاتيّة" ؟
والنّاس إزاء دعوة الأنبياء عليهم السلام أيضاً لا بدّ أن يختاروا أحد طريقين إمّا طريق "التصديق والإيمان" أو طريق "التكذيب والكفر"، والارتباط بخطّ الأنبياء عليهم السلام معناه الاستجابة إلى دعوة العقل والمنطق، أمّا رفض دعوة الأنبياء عليهم السلام فمعناه غلبة الأهواء والمصالح الذاتيّة على نداء العقل.
لقد اختار إبليس العصيان "الاختيار السيّء" قبال الأمر الإلهيّ بالسجود لآدم عليه السلام فطُرِدَ من رحمة الله فهو رجيم.
وكان المؤمنون والكافرون أيضاً ولم يزالوا على الدوام عرضة لاختبار "الاختيار الحسن" و"الاختيار
السيّء".
لنَطْوِ الآن سجلّاً مديداً لاختيارات تأريخيّة كثيرة، ولنقرأ في سجلّ نهضة عاشوراء، سجلّ الاختيارات العجيبة!
إنّ جميع تفاصيل ومشاهد حركة أحداث هذه النهضة الخالدة كانت قائمة على الاختيار، سواء في معسكر الحقّ معسكر الإمام الحسين عليه السلام، أو في معسكر الباطل معسكر ابن زياد وقوّاده وجنوده، إذ كان أهل الكوفة أنفسهم أيضاً عرضة لامتحان كبير، فأمّا اختيار نصرة الحسين عليه السلام وإنْ كانت عاقبة هذا الاختيار الشهادة، أو اختيار الحياة الدنيا والعافية والمناصب في حكومة الجور والظلم حتّى وإنْ أدّى هذا الاختيار إلى قتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيّد الشهداء عليه السلام، لقد كان بإمكان الإمام الحسين عليه السلام أن يختار مبايعة يزيد، وما كانت عاشوراء لتقع، ولكنّه اختار الشهادة عطشانا، روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "سمعتُ أبي يقول: لمّا التقى الحسين عليه السلام وعمر بن سعد لعنه الله وقامت الحرب، أنزل الله تعالى النصر حتّى رفرف على رأس الحسين عليه السلام، ثمّ خيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله، فاختار لقاء الله!"4.
في الطريق من مكّة إلى العراق، لمّا وصل إلى الإمام عليه السلام خبر مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، أخرج الإمام عليه السلام للناس كتاباً: "ونادى: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد: فقد أتانا خبر فظيع! قُتل مسلم بن عقيل، وهانيء بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منّا ذمام.
فتفّرق النّاس عنه تفّرقاً، فأخذوا يميناً وشمالاً، حتّى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة!"5.
ولمّا خرج عليه السلام من مكّة تبعه رسلٌ من والي مكّة يحملون إليه رسالة من الوالي يتعهّد فيها للإمام عليه السلام بالأمان والصلة إذا رجع عن سفره إلى العراق، فكان ممّا
أجابه الإمام عليه السلام:"... وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله"6.
في كربلاء أيضاً كان شمر بن ذي الجوشن قد جاء بأمان من عند ابن زياد لأبي الفضل العبّاس وإخوته من أمّه عليهم السلام، لكنّهم رفضوا ذلك الأمان واختاروا البقاء مع الإمام عليه السلام والشهادة بين يديه، وقالوا: "لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن سميّة"7.
والمشهور8 أنّ زهير بن القين (رضوان الله عليه) كان عثمانيَّ الهوى ولم يكن مائلاً إلى أهل البيت عليهم السلام، ولكنّه بعد لقائه بالإمام الحسين عليه السلام في الطريق من مكّة إلى الكوفة اختار لنفسه طريقاً جديداً، هو الالتحاق بالإمام عليه السلام والانضمام إلى الركب الحسينيّ، وجاهد في صفّ الحقّ حتّى استشهد (رضي الله عنه)، ولمّا سئل عن سبب تحوّله قال: "... الطريق جمع بين وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه منه، وعرفتُ ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم، فرأيت أن أنصره وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظاً لما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم "9.
وفي ليلة عاشوراء، حينما صاد الأنصار (قدس سرهم) وجهاً لوجه أمام اقتراح سيّد الشهداء عليه السلام، حيث أذن لهم بالانصراف عنه وتركه لأنّ الأعداء لا يبتغون غيره إذا ظفروا به، كان جوابهم واحداً قاطعاً لا تذبذب فيه وهو اختيار "البقاء معه"، فلم ينصرف عنه تلك الليلة أحدٌ منهم.
ومن الاختيارات الخالدة في عظمتها وأهميّتها اختيار "الحرّ بن يزيد الرياحيّ" (رضي الله عنه)، لقد كان حتّى صباح عاشوراء في صفّ معسكر ابن زياد، وكان أحد القادة المهمّين المرموقين في جيش الأعداء، لكنّه خيّر نفسه بين الجنّة والنّار، فاختار الجنّة قائلاً: "إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً
ولو قطّعت وأُحرقت!"، ثمّ ضرب فرسه مسرعاً به إلى معسكر الإمام عليه السلام ليقف بين يديه معلناً عن توبته واستعداده لنصرته، فقُبلت توبته، وجاهد بين يدي الإمام عليه السلام حتّى فاز بالشهادة والجنّة.
إنّ هذا الاختيار الفريد، والموقف الفذّ الذي اتّخذه الحرّ (رضي الله عنه) جعل منه أسوة خالدة للأحرار على مدى الأجيال، وفرقداً هادياً في سماء طلاّب الحقّ وأهل البصائر، وشهيداً من شهداء كربلاء العظام، فضلاً عن السعادة الأبديّة التي فاز بها.
إنّ التأمّل عند مفترق طريقين صعبين واختيار الأفضل منهما دليل على كمال عقل الإنسان وحرصه على مستقبله وسعادته.
ولكن هل عاش عمر بن سعد تجربة هذا التأمّل العقلائيّ حقّاً، وهل ذاق بصدق حقيقة هذا الاختبار المرير، حينما جاء إلى كربلاء لقتال الإمام الحسين عليه السلام مختاراً لنفسه أسوأ ما يختار إنسان لنفسه من مصير؟!
إنّه لم يمهل نفسه حتّى ليلة واحدة من أجل التأمّل والتفكّر في قبول ما أمره به ابن زياد أو رفضه! فلم يوفّق للفوز بـ"الاختيار الأحسن"، ذلك لأنّه كان مأخوذاً بطمعه في "ملك الريّ" إلى درجة عدم القدرة على مقاومة هذا الطمع أو الإعراض عنه! فكانت النتيجة أن فضّل الانقياد إلى اختيار وهم "ملك الريّ" حتّى وإنْ كان ثمن هذا الاختيار السيّء الذنب العظيم بقتل سيّد الشهداء عليه السلام 10!!
وهناك آخرون أيضاً كانوا قد التقوا الإمام الحسين عليه السلام في طريقه من مكّة إلى العراق، ودعاهم الإمام عليه السلام إلى نصرته، ولكن لحبّهم الدنيا وانشدادهم إليها، ومخافتهم من عواقب نصرة الإمام عليه السلام، لم يوفّقوا إلى "الاختيار الأحسن" في الالتحاق بركبه والانضمام إليه والاستشهاد بين يديه والفوز بالسعادة الأبديّة، وكان أوضح وأسوأ مثال لأولئك عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ، الذي صارح الإمام عليه السلام بتعلّقه بالدنيا قائلاً: "... والله إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة!
ولكن ما عسى أن أغني عنك؟! ولم أخلّف لك بالكوفة ناصراً!! فأُنشدك الله أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعد بالموت!..."11.
أمّا أنصار الإمام عليه السلام فقد واجه كلٌّ منهم امتحان "الاختيار"، فاختاروا جميعاً الشهادة مع الإمام عليه السلام على البقاء في هذه الدنيا... وهذا هو الاختيار- عن وعيٍ- للموت في سبيل العقيدة والإيمان، إنه الموت المختار لا الموت المفروض على الإنسان.
في ليلة عاشوراء وقف مسلم بن عوسجة (رضي الله عنه) بين يدي الإمام عليه السلام وخاطبه قائلاً: "أنحن نخلّي عنك؟! وبما نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟! لا والله! حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة. والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك، أما والله لو علمت أنّي أُقتل، ثمّ أُحيى، ثمّ أُحرق، ثمّ أُحيى، ثمّ أُذرى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!"12.
وخاطبه زهير بن القين (رضي الله عنه) قائلاً: "سمعنا يا ابن رسول الله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية، وكنّا فيها مخلّدين، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها!"13.
ورأى الإمام الحسين عليه السلام نفسه مخيّراً بين الذلّة والشهادة، فاختار السيف والشهادة وقال: "هيهات منّا الذلة!"14.
وكان من شعاراته التي أطلقها في الميدان يوم عاشوراء قوله عليه السلام في رجزه الحماسي:
القتل أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار15
إنّ السبب الرئيس في هذا "الاختيار الأحسن" هو النظرة الصحيحة التي يؤمن بها الإنسان إلى الربح والخسارة، وإلى الأبديّة والخلود، وإلى سبيل الفوز بالنعيم الدائم والسعادة الباقية.
وقيمة كلّ فرد أو أُمّة رهنٌ لنوع اختيار هذا الفرد أو تلك الأمّة ومن الطبيعي أنّ الأمم الصبورة المقاومة تثبت على اختيارها، ولا تنحني أو تنثني لكثرة من تفقدهم من شهدائها أو لعظم ما تتعرّض له من خسائر، ذلك لأنّها اختارت مسيرها عن وعي وإيمان.
يقول الإمام الخمينيّ بصدد شهداء كربلاء:
"كلمّا كان سيّد الشهداء عليه السلام في يوم عاشوراء يقترب من الشهادة كان وجهه يشرق أكثر! وكان شبّانه يتسابقون للفوز بالشهادة، لقد كانوا جميعاً يعلمون أنهم عمّا قليل سيستشهدون، لكنّهم تسابقوا لأنهم كانوا يعلمون إلى أين يذهبون، ويعلمون لماذا أتوا، كانوا على وعيٍ: أنّنا جئنا لأداء تكليفنا الإلهي، جئنا لحفظ الإسلام"16.
الحياة ميدان الإختبار
حكمة الاختبار هي إظهار وإثبات الصدق والقدرة والقابليّات والخصال الكريمة الخالصة المخفيّة في الإنسان، فادّعاء الإيمان وتحرّي الحقّ والحقيقة لا تثبت حقّانيته ولا يتجلّى صدقه إلّا في ميدان العمل ومحنة الاختبار.
من هنا، فإنّ النخب من النّاس دائماً يسعون إلى نيل الدرجات العالية في خضمّ امتحانات الحياة.
ولا بدّ أيضاً أن يكون البلاء والامتحان من خلال الصعوبات والشدائد، ومعاناة محنة السجن، والاستشهاد، وفقد الأعزّة، والأهل، والأموال، والتضحية بأعزّ الأشياء... ولا بدّ من فتنة الابتلاء والامتحان في حياة المؤمن!
يقول الله تبارك وتعالى: ?الم * أَحَسِبَ النّاس أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ?17.
وميدان الجهاد في سبيل الله أحد أهمّ وأفضل ميادين امتحان الإيمان والإخلاص وصدق المؤمنين.
وكانت كربلاء أيضاً من أبرز ميادين الجهاد والكفاح بين الحقّ والباطل التي تستدعي حضور المؤمنين الصادقين والتضحية بأرواحهم.
ولقد حرم الكثيرون من توفيق امتحان كربلاء، وكما وفّق جمع من الصادقين لهذا التوفيق النادر العزيز، فصاروا من أهل الفوز العظيم بنيلهم أعلى درجات السعادة
الأبديّة، أولئكم شهداء كربلاء الذين حملوا أرواحهم على أكفّهم في سوق المتاجرة مع الله فعانقتهم عرائس الشهادة.
يقول الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه):
"سجلُّ الدرجات العالية النورانيّ لشهادة وتضحية أعزّائكم، شاهدٌ صادق على نيلهم أعلى امتيازات ومراتب التحصيل المعنويّ، وهو سجلٌّ ممضيٌّ بختم مرضاة الله تبارك وتعالى، وسجلّ درجاتكم رهينٌ بسعيكم ومجاهدتكم. الحياة في عالم اليوم حياة في مدرسة الإرادة، وسعادة كلّ إنسان أو شقاوته إنّما تسجّل بمداد إرادة ذلك الإنسان نفسه"18.
إنّ أنصار الإمام الحسين عليه السلام رأوا أنفسهم ليلة عاشوراء مخيّرين بين "البقاء" و"الرحيل"، فباختيارهم "البقاء" و"القتال" و"الاستشهاد" في ركب الإمام الحسين عليه السلام حازوا على أرفع وأعلى امتياز في هذا الامتحان الحيوي، وكان الإمام عليه السلام في نفس تلك الليلة أيضاً قد أثنى غاية الثناء على صدقهم ووفائهم، وشهد لهم بأن "لا نظير لهم" في الماضين ولا في الآتين.
ترى هل بإمكان جميع النّاس في لحظة الاختيار أن يخرجوا من الامتحان مبيضّةً وجوههم وموفّقين؟ إنّ حلاوة الحياة في الاختيارات السامية، وفي الموفقيّة في هذه الابتلاءات.
الأمّة الحيّة والأمّة الميّتة
إنّ الفرد أو المجتمع الحيّ هو الذي يحيا "الحياة الطيّبة"، ولا يرى الحياة مجرّد استمرار عمليّة التنفّس.
والحياة الطيّبة هي التي يجد الإنسان في ظلالها: الإيمان، والعزّة، والتحرر، والشرف، والوفاء، والطهارة، أمّا الحياة الذليلة التي يعاني الإنسان في أجوائها القهر والهوان فهي الموت، يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
"الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين"19.
ويقول الإمام الحسين عليه السلام:
"لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما"20.
فالأمّة الحيّة إذن هي الأمّة التي لا تتخلّى عن حرّيتها وعزّتها، وتجاهد في سبيل تحقيق أهدافها، وترفض سيطرة الظالمين عليها، حتّى وإنْ تعرّضت جميعها للقتل في سبيل ما تعتقده وتؤمن به، ولهذا كان الشهيد حيّاً حياة خالدة، وفي ضوء هذه النظرة الإيمانيّة الحقّة فاز شهداء كربلاء بالحياة الخالدة، ذلك لأنّهم آمنوا بأنّ الحياة في قتلهم واستشهادهم في سبيل ما يؤمنون به من شروط الحياة الطيّبة، يقول الإمام الحسين عليه السلام:
"ليس الموت في سبيل العزّ إلّا حياة خالدة"21.
وهذا التصريح الخالد للإمام عليه السلام تفسير واضح لمفهوم الحياة.
أمّا عدم مبالاة أمّةٍ ما إزاء ما يعصف بحياتها من مفاسد ومظالم، فدليل على موت تلك الأمّة، تماماً كمثل الأعصاب المقطوعة لعضو من أعضاء الجسد، حيث لا تستشعر الألم، ولا ردّ فعلٍ لها على ما تتعرّض له من ضربات، وبسبب من عدم إحساسها تكون كالميّت الذي لا روح له، والمجتمع الذي فقد الغيرة الدينيّة والحمّية الإنسانيّة، ولا يبالي بما يعيشه من أوضاع حياته سيّئة كانت أم حسنة! مجتمع ميّت أيضاً.
لقد أثبت أبطال ملحمة عاشوراء بجهادهم واستشهادهم على أنّهم أحياء، في وقت كان النّاس في مجتمع يومذاك أمواتاً لأنّهم لم تكن لهم أي ردّة فعل، أو رفض، أو تحرك مناهض، مع كلّ ما كانوا يرونه من جميع تلك المفاسد والمظالم التي غمرت حياتهم.
لقد كانت عاشوراء ضخّاً لدمٍ حيويّ جديد في جسد الأمّة، وصعقة لتحفيز الإحساسات الدينيّة والإنسانيّة في ذلك الجسد الخادر.
الإغاثة
إنَّ التكليف قائمٌ دائماً على أساس "العلم" و"المقدرة"، فكلّ من لا علم له بالتكليف، أو لا قدرة له على أدائه، لا تقع عليه مسؤولية القيام به، وكلّ من كان أعلم وأقدر فتكليفه أشدّ وأثقل.
وليس بمسلمٍ من يسمع استصراخ واستغاثة رجل آخر مظلوم، وهو قادر على إغاثته، ثمّ لا يعبأ باستغاثته ولا يسارع إلى نصرته! إنّ الحديث المعروف: "من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"22. شاهد على هذا التكليف.
فحينما تنطلق استغاثة مستغيث، تجب إغاثته على كلّ مسلم قادر على الإغاثة، ويحرم عليه الإغماض عنها وعدم الاهتمام بها.
وفضلاً عن تكليف الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة حكومة الظلم والجور، وفي إحياء معالم الدين، كان عليه السلام أيضاً أمام تكليف إغاثة ونصرة الشيعة في الكوفة الذين كانوا قد استغاثوا به واستنصروه وأظهروا له تمام استعدادهم لإطاعته وامتثال أمره في النهضة بهم لإقامة حكومة العدل، لقد كانت الحجّة تامّة على الإمام عليه السلام في هذا الأمر، وكان من اللازم عليه الاستجابة لدعوتهم والمبادرة إلى إغاثتهم ونصرتهم، وكثيراً ما كان عليه السلام يحتجّ عليهم بهذا الأمر في قدومه إليهم، من ذلك قوله عليه السلام في مخاطبتهم:
"إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام"23.
وكان عليه السلام قد أشعرهم بلزوم هذه الحجّة في وجوب إغاثته إياهم، في رسالته التي كتبها إليهم من مكّة المكّرمة، حيث قال عليه السلام:
".. أمّا بعدُ: فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم ـ وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم ـ وقد فهمتُ كلَّ الذي قصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم: إنّه ليس علينا إمامٌ، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ.
وقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم. فإنّه كتب إليَّ: أنّه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم، وقرأتُ في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إنْ شاء الله..."24.
كان الشيعة آنذاك يعانون الأمرّين من ظلم يزيد وأعوانه الطواغيت، فدعوا الإمام الحسين عليه السلام لنجدتهم وإغاثتهم، وتحرّك الإمام عليه السلام من مكّة نحو العراق مستجيباً لاستغاثتهم، وفي الطريق إلى الكوفة كان الإمام نفسه عليه السلام قد التقى رجالاً عديدين وطلب منهم نصرته، وقد استجاب له بعضهم ملبّين لندائه فالتحقوا بركبه، كزهير بن القين (رضي الله عنه)، وبعض اعتذر إليه عن الالتحاق به وتذرّع بذرائع واهيّة وكان الإمام عليه السلام وهو الرؤوف الشفيق قد نصح هؤلاء الذين رفضوا الالتحاق به أنّ عليهم إذ رفضوا نصرته أن يبتعدوا على الأقلّ عن منطقة استصراخه واستنصاره، ذلك لأنّ:
"من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يغثنا كان حقّاً على الله عزَّ وجلَّ أن يكبّه على منخريه في النّار"25.
وكان نداء الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء أيضاً: "هل من ناصرٍ؟" خطاباً موجّهاً إلى جميع أولئك الذين كانت لديهم القدرة على نصرته والدفاع عن حريم
وحرم أهل بيت النبوّة، وكانت صرخة استغاثته عليه السلام:"هل من مغيثٍ" و"هل من ذابٍّ" عالية في يوم عاشوراء ولم تزل إلى اليوم، ولا تزال تخاطب جميع الأجيال الآتية، ليجيبوها قائلين: لبيك يا سيّد الشهداء! لبّيك يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !
لقد ضحّى سيّد الشهداء بنفسه وبأهله وأصحابه يوم عاشوراء من أجل إنقاذ الأمّة المضطهدة من ظلم حكّام الجور ومفاسدهم، ومن أجل إخراجها من ظلمات الحيرة والجهالة إلى نور الهدى والحقّ، كما نقرأ ذلك في متن زيارته عليه السلام في يوم الأربعين:
"وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة..."26.
واليوم أيضاً نرى مسلمي ومستضعفي العالم مبتلين بسيطرة الحكومات الجائرة عليهم، ومنهم من يكافح على طريق خلاصه ونجاته من الظلم والجور، وصرخة استغاثتهم مدويّة، فتكليف العاشورائيّين إغاثة هؤلاء وإيوائهم، والمسارعة إلى إمدادهم بما يلزم، وإيصال المعونة إليهم حتّى في جبهات القتال.
إنّ مساعدة المستضعفين والجهاد في سبيل تحريرهم وإنقاذهم أمرٌ دعا إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:
?وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا?27.
النصر والهزيمة
من المفاهيم المؤثّرة تأثيراً كبيراً في حياة النّاس مفهوم ومعنى النصر والهزيمة ونوع النظرة التي يتبنّاها الإنسان بصددهما.
حينما تتحقّق الأهداف المنشودة في مواجهةٍ هادفةٍ فإنَّ نتيجتها تعتبر نصراً للطرف الذي خاض هذه المواجهة من أجل تحقيق هذه الأهداف، حتّى وإنْ لم يحقق هذا الطرف فتحاً عسكرياً فيها، بل لا يمنع من كون هذا النصر قد تحقّق فعلاً أنّ الأهداف المنشودة لا تتحقّق إلّا في زمن متأخّر عن زمان الواقعة ولو بعد أجيال عديدة. بل إنّ التكليف المُلقى على عاتق الإنسان في أيّ مقطع زمانيّ إذا قام به هذا الإنسان وأدّاه تمام الأداء فهو انتصار، لأنّ نفس "أداء التكليف" انتصار، وإنْ انتهى في الظاهر أحياناً إلى انكسار وهزيمة.
ولم يكن للإمام الحسين عليه السلام هدف غير إعلاء كلمة الحقّ، وبقاء الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، من أجل تحقيق العدل والعزّة والكرامة الإنسانيّة، وقد تحقّقت للإمام عليه السلام جميع هذه الأهداف، وإنْ كان عليه السلام وأنصاره قد استشهدوا في عاشوراء!
ففضح حقيقة الأمويين البشعة بكشف اللثام عن كفرهم، وتمزيق هويّتهم الإسلاميّة المزوّرة، وفصل الإسلام الأموي عن الإسلام المحمّديّ الخالص، وكسر حالة الرعب والخوف المهيمنة على الأمّة بالقيام والثورة على حكومة الجور، ونفخ روح الإحساس والالتزام والمسؤولية في الأمّة إزاء الإسلام وقضايا المسلمين،
إحياء دوافع الجهاد والمقاومة في سبيل الحقّ، كلّ ذلك كان من الأهداف الحسينية التي تحقّقت في عاشوراء.
إذن فالإمام الحسين عليه السلام كان هو المنتصر في كربلاء، والنصر إذن لا يعني الغلبة العسكرية فقط، إذ إنّ انتصار الدّم على السيف من نفس نوع الانتصارات الحقيقيّة.
بعد عودة الركب الحسينيّ من الشام إلى المدينة، كان إبراهيم بن طلحة قد التقى الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة، فسأله عن الغالب والمنتصر في كربلاء يوم عاشوراء، فأجابه الإمام السجّاد عليه السلام قائلاً:
"إذا دخل وقتُ الصلاة فأذِّن وأقِم تعرِفُ مِن الغالب!"28.
وهذا هو النصر المتحقّق بتحقّق الأهداف، وإن كان الناظرون إليه بعين الظاهر لا يرونه نصراً!
ومن ناحية أخرى فإنّ الذين يعيشون الحياة على أساس عقيدة حقّة نقيّة طاهرة، ويضحّون أيضاً بأنفسهم في سبيل هذه العقيدة، منتصرون دائماً وعل كلّ حال، لأنّهم- حسب التعبير القرآنيّ- أصحاب "إحدى الحسنيين"، سواء غلبوا أو استشهدوا.
وشهداء هذا الطريق- في الرؤية العاشورائيّة- منتصرون، لأنّ الشهادة هي الفوز الأكبر والفلاح العظيم، أمّا المتخلّفون عن قافلة الشهادة فيعيشون حياة بلا فتح، ذلك لأنّهم قصّروا بقعودهم عن نصرة الحقّ، وهل ثمَّ حياة أمرُّ من هذه الحياة؟ لمّا فصل سيّد الشهداء عليه السلام بركبه عن المدينة بعد خروجه منها دعا بقرطاس، وكتب رسالة إلى بني هاشم هي: "بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّ من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح، والسلام"29.
لقد دوّن الإمام عليه السلام في هذه الرسالة المباركة عبارة واحدة، لكنّها كانت قد تضمّنت كلّ معنى العظمة، وحوت البلاغ السامي في أنّ الشهادة تحت رايته عليه السلام هي فتح مبين! لا يبلغه من تخلّف عن الركب الحسينيّ.
حياة بلا موت!
لا يكون الشهيد شهيداً إلّا بعد بذله نفسه الزكّية وقتله، لكنّه ما إنْ يستشهد حتّى يتمتّع بنوع آخر من الحياة أسمى من حياته الدنيويّة، حياة خالدة يحياها عند ربّه جلّ وعلا، ويرزق فيها أكرم الرزق: ?... بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ...?30.
إنّ لحظة مفارقة الروح عن البدن هي لحظة نهاية الحياة عند جميع النّاس، لكنّها عند الشهداء في سبيل الله ليست غير لحظة ختام فقط، بل هي عندهم لحظة بداية مرحلة جديدة من الحياة أسمى وأرقى عند ربّ العالمين، ينعم فيها الشهيد برزق الله تبارك وتعالى.
فأولئك الذين يضحّون بحياتهم في سبيل الله يحظون بـ"حياة بلا موت"، يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) : "الشهادة في سبيل الله، حياة أبديّة مقرونة بالفخر، ومصباح هداية للأمم"31.
وإذا كان بعض النّاس في هذه الدنيا رائداً إلى الخير والحقّ، مرشداً للأمّة، وسبب حركتها ويقظتها، فإنّ لمقتل الشهداء نفس هذا التأثير أيضاً، إذ يبقى المضحّون بأرواحهم في سبيل الله بعد شهادتهم أيضاً ـ كما كانوا في عالم الدنيا ـ مشاعل هداية للناس، وفاتحين لسبل الخير والعزّة والكرامة، وملهمين لحركة الأمّة نحو أهدافها المنشودة.
يعبّر الإمام الخمينيّ (قدس سره) عن هذه الحياة الخالدة قائلاً:
"ها نحن الآن نشاهد كيف تسابق ذوو الأجنحة الهفهافة من عشّاق الشهادة
على جياد الشرف والعزّة خفافاً إلى معراج الدم، فبلغوا رتبة الشهود والحضور بين يدي عظمة الحقّ تعالى وفي مقام "جمع الجمع"، وينظرون من الأفق الأعلى إلى ثمرات بطولاتهم وتضحياتهم على وجه الأرض، حيث أقاموا بهمهم العالية الجمهورية الإسلاميّة في إيران، وارتقوا بثورتنا إلى ذروة العزّة والشرف، وحملوا مشاعل الهداية للأجيال العطشى إلى النور، وصنعوا من قطرات دمائهم طوفاناً عظيماً وعاصفة رهيبة..."32.
ولقد ضمن الله تبارك وتعالى بقاء وخلود أسماء الشهداء وذكرهم، ومن هنا كان بقاء وخلود نهج وسيرة شهداء كربلاء ومآثرهم.
في اليوم الحادي عشر من المحرّم عزم ابن سعد على أن يرحل ببقيّة الركب الحسيني من كربلاء إلى الكوفة، فلمّا نظر الإمام السجّاد عليه السلام إلى ميدان المعركة ورأى أهله مجزّرين "وبينهم مهجة الزهراء بحالة تنفطر لها السماوات وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً، عظم ذلك عليه واشتدّ قلقه، فلمّا تبيّنت ذلك منه زينب الكبرى بنت عليّ عليه السلام أهمّها أمر الإمام عليه السلام فأخذت تسلّيه وتصبّره، وهو الذي لا توازن الجبال بصبره، وفيما قالت له:
مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وإخوتي؟! فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك، لقد أخذ الله ميثاق أناسٍ لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السموات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة، فيوارونها وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدرس أثره ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتَطْميسِهِ فلا يزداد أثره إلّا علوّاً"33.
ولقد أشارت مولاتنا زينب عليها السلام مرّة أخرى إلى هذه الحقيقة في الشام في قصر يزيد، في خطبتها التي قرّعت بها يزيد وفضحت بها كفره، حيث قالت له: "فكد كيدك واسعِ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميتُ وحينا..."34.
شرف الشهادة
إنّ نظرة الإنسان إلى معنى "الحياة" هي الّتي توجّه عمله وتحدّد مواقفه.
والحياة في منظار العاشورائيّين لا تنحصر في محدودة ما بين الولادة والموت، بل هي في عقيدتهم تمتدّ إلى يوم القيامة وإلى الأبد.
وفي ضوء هذه الحقيقة فإنّ الإنسان الحكيم هو الذي يؤثر سعادة تلك الدار الآخرة ذات النعيم الدائم على هذه الدنيا الفانية ولذائذها المؤقّتة الزائلة المشوبة بالآلام والغصص.
من هنا، فإنّ نصرة الدين والدفاع عنه، وإطاعة وليّ الله وامتثال أوامره، ممهّدٌ وسبب رئيس لتلك السعادة الأبديّة المنشودة، والشرف كلّ الشرف في نصرة حجّة الله عليه السلام والدفاع عنه، حتّى وإنْ كانت الخاتمة أن يقتل المؤمن في هذا المسار.
لقد كان حبيب بن مظاهر (رضي الله عنه) من أهل هذه العقيدة وهذه البصيرة، إذ لمّا نزل الإمام الحسين عليه السلام أرض كربلاء "أقبل حبيب بن مظاهر إلى الحسين عليه السلام فقال: يا ابن رسول الله! ها هنا حيٌّ من بني أسد بالقرب منّا، أتأذن لي في المصير إليهم فأدعوهم إلى نصرتك، فعسى الله أن يدفع بهم عنك. قال: قد أذنت لك. فخرج حبيب إليهم في جوف الليل متنكّراً حتّى أتى إليهم فعرفوه أنّه من بني أسد، فقالوا: ما حاجتك؟ فقال: إنّي قد أتيتكم بخير ما أتى به وافدٌ إلى قوم، أتيتكم أدعوكم إلى نصر ابن بنت نبيّكم، فإنه في عصابة من المؤمنين الرجل منهم خيرٌ من ألف رجل، لن يخذلوه ولن يسلموه أبداً،
وهذا عمر بن سعد قد أحاط به، وأنتم قومي وعشيرتي، وقد أتيتكم بهذه النصيحة فأطيعوني اليوم في نصرته تنالوا بها شرف الدنيا والآخرة، فإنّي أُقسم بالله: لا يُقتل أحدٌ منكم في سبيل الله مع ابن بنت رسول الله صابراً محتسباً إلّا كان رفيقاً لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم في عليّين..."35.
هذه هي نظرة حبيب إلى الحياة والشرف وإلى معنى التضحية بالنفس وبهذه الحياة الدنيا.
ولقد أثنى القرآن الكريم على المؤمنين الذين يثبتون على خطّ تحمّل أعباء المسؤولية الشرعيّة والقيام بالتكليف ويضحّون بأنفسهم في سبيل الله ووصفهم بالصدق، والوفاء بالعهد، والثبات على الحقّ، حيث قال الله تعالى: ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا?36، وهذا الثناء والمديح الإلهي بنفسه شرف يتزيّن به الشهداء، وينتظر أهل البصائر الفوز به لحظة بعد لحظة طيلة أعمارهم.
ونقرأ مثلاً آخر لهذه العقيدة الحقّة في كلام أنصار الإمام عليه السلام، حينما أذن عليه السلام لهم بالانصراف والتخلّي عنه ليلة عاشوراء، حيث كان جوابهم جميعاً: "الحمدُ لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك، أولا ترتضي أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله؟"37.
كما قدّم الحرّ بن يزيد الرياحيّ مثلاً آخر لهذه البصيرة النافذة في صبيحة يوم عاشوراء، فبعد أن تيقّن أنّ جيش عمر بن سعد سيقاتل الإمام عليه السلام حتماً صمّم على الانضمام إلى الإمام عليه السلام حتّى وإنْ كانت نتيجة تصميمه (رضوان الله عليه) أن يضحّي بنفسه في هذا السبيل.
طلب الشهادة
في الظروف التي يسعى أغلب النّاس خلالها إلى التشبّث بهذه الحياة الدنيا حرصاً على البقاء فيها أطول عمر ممكن، تجد أنّ هناك أناساً أيضاً في ضوء إدراكهم السامي لمعنى الحياة، وللمقام الرفيع الذي يتمتّع به الشهداء في سبيل الله، على استعداد تامٍّ للتضحّية بأرواحهم، مرحّبين بالتخلّي عن هذه الدنيا، طمعاً بالفوز بالشهادة في سبيل المذهب والدين، ويقال لهذه الروحيّة التضحويّة المقترنة بالتحرّر من التعلّقات الدنيويّة: روحيّة "الاستشهاد"، إذ القتل في سبيل الله هو التجارة المربحة تماماً مع الخالق تبارك وتعالى، يعني أنّ التضحية بالنفس في سبيل الله هي الوصول إلى النعيم الإلهيّ الخالد.
والإسلام بتسليحه عقول وقلوب أتباعه بعقيدة "إحدى الحسنيين" إنّما يربّيهم ويسمو بهم إلى درجة الإيمان بحقيقة أنّهم حتّى في ميادين الحرب أيضاً منتصرون وفائزون بالحسنى سواء قتلوا الأعداء أو قُتلوا.
إنّ أئمّة الهدى عليه السلام وأتباعهم الخلَّص كانوا يتمتّعون بهذه الروحيّة السامية، ولذا فقد كانوا يستبشرون ببذل أرواحهم في سبيل الإسلام وما كانوا يتضايقون بذلك.
لقد كان ميدان كربلاء يوم عاشوراء مجلى "طلب الشهادة" عند أنصار الإمام عليه السلام الموقنين بحقيقة "إحدى الحسنيين"، وكان الإمام عليه السلام طليعتهم وأسوتهم في هذا الميدان.
وكان عليه السلام قد صرّح بهذا المنطلق الاعتقاديّ لمّا عزم على الخروج من مكّة، في خطبته التي قال فيها: خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة... حيث قال في آخرها:
"... من كان باذلاً فينا مهجته، وموطِّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله تعالى"38.
وفي الطريق إلى العراق لمّا استرجع الإمام عليه السلام قائلاً: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" بعد الرؤيا التي رآها، وأطلع عليها ولده عليّاً الأكبر عليه السلام، فسأله عليٌّ عليه السلام:"يا أبه! أفلسنا على الحقّ؟".
قال عليه السلام:"بلى يا بُنيَّ! والذي إليه مرجع العباد".
قال عليُّ الأكبر عليه السلام:"إذاً لا نبالي بالموت!"39.
فهذه الإجابة أيضاً كاشفة عن عقيدة ودافع "طلب الشهادة" عند مولانا عليّ الأكبر عليه السلام.
وتعبير الإمام الحسين عليه السلام عن حقيقة أنّه إذا كان لا بدّ من الموت فإنّ الشهادة في سبيل الله هي أفضل الموت، في البيت الشعريّ الذي يقول فيه:
"فإن تكن الأبدان للموت أنشأت فقتل امرءٍ بالسيف في الله أفضل"40
شاهد آخر على هذه الروحيّة القدسّية عند الإمام عليه السلام:
وشاهد عليها أيضاً جوابه عليه السلام للحرّ حينما التقاه في الطريق بجيش من ألف فارس، وحذّره من القتل! إذ استشهد عليه السلام بأبيات من الشعر، مطلعها:
"سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما"41
وورد في نقل آخر أنّه عليه السلام بعد استشهاده بهذه الأبيات، قال: "... أفبالموت تخوّفني؟! هيهات طاش سهمك، وخاب ظنّك، لستُ أخاف الموت، إنّ نفسي لأكبر
من ذلك، وهمّتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفاً من الموت، وهل تقدرون على أكثر من قتلي؟! مرحباً بالقتل في سبيل الله..."42.
ومن الشواهد الأخرى على هذه الروحيّة القدسّية والبصيرة النافذة عنده عليه السلام كلامه النورانيّ في شعاره الخالد: "لا أرى الموت إلّا سعادة".
إنّ الترحيب بالموت في سبيل العقيدة والأهداف الحقّة أمر ذو قيمة سامية وممدوح عند الأمم الأخرى أيضاً، إنّهم يقدّسون مثل هذا الموت ويمجّدونه، ويرونه خيراً وأفضل من حياة ذليلة خاضعة للظلم مقرونة بالعار والهوان.
إنّ الموت الأحمر في سبيل الله مرتبة من مراتب كمال الحياة، هي أرقى وأسمى من مرتبة الحياة الدنيا، والشهداء أحياء عند ربّهم خالدون.
لقد أقدم الإمام الحسين عليه السلام على الموت مرحّباً به عن وعي ويقين، وكان أنصاره مثله أيضاً طالبين للشهادة، وإذا دقّقنا النظر في أقوال أنصار الإمام عليه السلام وتصريحاتهم في ليلة عاشوراء لرأينا هذه الروحيّة القدسّية تموج فيها، فقد كان كلّ واحد منهم يقوم بين يدي الإمام عليه السلام تلك الليلة وفي محضر بقيّة الأنصار ليفصح عن عشقه للشهادة في سبيل الله دفاعاً عن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن شوقه إلى مجاهدة الظالمين، فمع أنّ الإمام عليه السلام قد جعلهم في حلّ من بيعته، وكان قد أذن لهم بالانصراف والتخلّي عنه، لكنّ جوابهم على هذا الترخيص كان هكذا:
"الحمدُ لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك"43.
حتّى الشابّ اليافع فيهم أيضاً مثل القاسم عليه السلام كان يرى الموت مع الإمام عليه السلام أحلى من العسل، فهو يرحّب به ويتلهّف إليه!
وهكذا كانت معرفة الإمام عليه السلام بأصحابه وبروحيّاتهم العالية وبثباتهم الذي لا يتزعزع، فحينما أحسّت زينب الكبرى عليها السلام ليلة عاشوراء بالقلق على أخيها الحسين عليه السلام مخافة أن يسلمه أصحابه حين الوقعة أو يخذلوه، فسألت أخاها الإمام عليه السلام هل استخبر حالهم ونيّاتهم وعزائمهم؟ كان جواب الإمام عليه السلام:"أما
والله! لقد نهرتهم وبلوتهم، وليس فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن أمّه!"44.
وفي نفس تلك الليلة، كان أبو الفضل العبّاس قد جمع الأنصار من بني هاشم وخطب فيهم قائلاً: "إنّ هؤلاء- أعني الأصحاب- قوم غرباء والحمل الثقيل لا يقوم إلّا بأهله، فإذا كان الصباح فأوّل من يبرز إلى القتال أنتم، نحن نقدمهم للموت لئلّا يقول النّاس: قدّموا أصحابهم، فلّما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة"، فقامت بنو هاشم وسلّوا سيوفهم في وجه أبي الفضل العبّاس عليه السلام وقالوا: "نحن على ما أنت عليه!"45.
هذه هي عقيدة أهل البيت عليه السلام... ففي إحدى مناجاة الإمام الحسين عليه السلام في نفس يوم عاشوراء، نقرأ هكذا:
"إلهي وسيّدي! وددتُ أن أُقتل وأُحيى سبعين ألف مرّة في طاعتك ومحبّتك، سيّما إذا كان في قتلي نصرة دينك وإحياء أمرك وحفظ ناموس شرعك..."46.
إنّ طُلّاب الشهادة لهم تفسير جديد لمعنى الموت والحياة، كالإمام الحسين عليه السلام حيث يقول: "موت في عزّ خيرٌ من حياة في ذلّ"47.
فهم على استعداد تامّ لا تردّد فيه لاختيار واستقبال شرف الشهادة في سبيل الحقّ مفضّلين القتل في عزّ على حياة أيّام معدودة في ذلّ وهوان، فالتعاليم الحسينيّة كانت قد علّمتهم هذه الحقيقة وغذّتهم بها: "فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟! "48.
بهذه النظرة إلى الموت كان الإمام الحسين عليه السلام قد نادى أنصاره في صبيحة يوم عاشوراء- لمّا أقبلت عليهم سهام جيش عمر بن سعد كالمطر- قائلاً: "قوموا رحمكم
الله إلى الموت الذي لا بدّ منه"49.
وهذا النداء في الواقع دعوة إلى الحياة، الحياة الخالدة في ظلّ الموت الأحمر! لقد أحيت ملحمة عاشوراء عقيدة وروحيّة "طلب الشهادة"، وحرص أئّمتنا عليهم السلام أيضاً على أن يزرعوا في قلوب شيعتهم ومواليهم هذه العقيدة وهذه الروحيّة بالاستلهام من عاشوراء.
وقد كان ولم يزل زوّار الحرم الحسينيّ وقبور شهداء الطفّ، وحضّار المجالس الحسينيّة يعبّرون عن عشقهم لهذه الشهادة، وعن أمنيّتهم في أن لو كانوا ممّن نصروا الحسين عليه السلام واستشهدوا بين يديه في جملة أنصاره، فهم يردّدون هذه الحسرة الخالدة: "يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً"50.
وكان للإمام الخمينيّ (قدس سره) الدور الأكبر في إحياء هذه الروحيّة في مجتمعنا الثوريّ، وفي نشر التعاليم الحسينيّة في أوساط الشباب وتربيتهم عليها، نرى هذه الحقيقة واضحة في خطاباته (قدس سره) وفي بياناته المفعمة بتلك الروح الحسينيّة والأنفاس العاشورائيّة، وهذه الخطب والبيانات تشكّل في مجموعها كتاباً مفصّلاً، لا يسعنا في معرض الإشارة إليها إلّا أن ننتقي منها نماذج على سبيل المثال لا الحصر:
"إنّ الموت الأحمر أفضل بمراتب كثيرة من الحياة السوداء، ونحن اليوم في انتظار الشهادة، قد تهيّأنا لها حتّى يقف غداً أبناؤُنا شامخي الرؤوس في مواجهة الكفر العالميّ"51.
"أنا قد أعددت دمي وروحي رخيصين من أجل أداء واجب الحقّ وفريضة الدفاع عن المسلمين، وإنّي في انتظار الفوز العظيم باستشهادي"52.
"خطّ الشهادة الأحمر خطّ آل محمّد وعليّ، وهذا الفخر ورثته عن أهل بيت النبوّة والولاية الذّريّة الطيّبة لأولئك العظماء وأتباع خطّهم"53.
"بسبب هذا الحافز يعانق جميع الأولياء الشهادة في سبيل الله ويرون الموت الأحمر أحلى من العسل، ويرتشف الشباب في الجبهات جرعة منه فينتشون"54.
الدنيا منام والآخرة هي اليقظة
كما أنّ الدنيا في الحقيقة ليست سوى رؤيا منام، وأنّ عالم اليقظة هو عالم الآخرة، كذلك فإنّ أكثر النّاس في هذه الدنيا نيام، فإذا ماتوا انتبهوا!
ومعيار السعادة والفلاح في الآخرة حيث الحياة الواقعيّة الحقّة، وليس في الدنيا التي هي أشبه ما تكون برؤيا المنام.
يقول الإمام الحسين عليه السلام:"إنّ الدنيا حلوها ومرّها حلم، والانتباه في الآخرة، والفائز من فاز فيها، والشقيُّ من شقي فيها"55.
وعلى أساس هذه النظرة فإنّ من يتعلّق قلبه بسعة الآخرة يرى الدنيا ضيّقة محدودة وخانقة، ويرى الموت جسراً يعبر به من مضائق الدنيا إلى رحاب الآخرة، ويسعى بكلّ جهده وطاقته للنجاح والموفقيّة في مرحلة ما بعد الموت، مرحلة الحياة الحقّة واليقظة الدائمة.
يقول الإمام الحسين عليه السلام وهو يحثّ أصحابه على الصبر والصمود يوم عاشوراء: "صبراً بني الكرام! فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟! وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب. إنّ أبي حدّثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى
جنّاتهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبتُ ولا كُذِبت"56.
إن الذين لا يعرفون الآخرة ولا يرونها يكون من أصعب الأمور عليهم الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، أمّا إذا كان الإنسان من أهل الإيمان والبصيرة، وكان يشاهد الآخرة في نفس هذه الدنيا، فإنّ هذه الرؤية الإيمانيّة الشهوديّة تُهوِّنُ عليه بل تحبّب إليه الانتقال إلى الآخرة، إذ يتغلّب الشوق إلى الآخرة على الركون إلى الدنيا.
إنّ نوع نظرة الإنسان إلى الدنيا والآخرة وإلى الارتباط بينهما له تأثير كبير وأساس في تحديد نوع عمل الإنسان.
يقول الإمام الحسين عليه السلام في الرسالة التي بعث بها من كربلاء إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة وبني هاشم: "... أمّا بعدُ، فكأنّ الدنيا لم تكن! وكأنّ الآخرة لم تزل! والسلام". إنّ معرفة بالدنيا والآخرة كهذه المعرفة التي تمتدّ فيها أنوار تجليّات الآخرة لتغمر حتّى هذه الدنيا، هي السبب الذي جعل الدنيا في نظر الإمام عليه السلام ليست بدار قرار، فلا يصحُّ الركون إليها والاطمئنان بها، فكان عليه السلام رغبة في الارتحال عنها يعدُّ العمر لحظة شوقٍ إلى دار الخلود والنعيم، دار لقاء الله تعالى.
هوامش
1- اللهوف، ص34، المطبعة الحيدريّة ـ النجف.
2- نفس المصدر.
3- راجع: الدهر، 2: ?إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا?.
4- اللهوف، ص44، المطبعة الحيدريّة ـ النجف، والكافي، ج1، ص260، ح8.
5- وقعة الطفّ، ص166.
6- وقعة الطفّ، ص155.
7- نفس المصدر، ص190.
8- راجع مناقشة صحّة هذا المشهور في الجزء الثالث من موسوعة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة).
9- وقعة الطف، ص194.
10- ولقد عبّر عمر بن سعد عن ضعف عقله ونفسه، وعن انقياده لهواه في الأبيات المأثورة عنه، والتي منها هذا البيت:
أأترك ملك الريّ والريُّ منيتي أو أصبح مأثوماً بقتل حسينٍ
(راجع: الخصائص الحسينيّة/ ص71).
11- الأخبار الطوال، للدينوريّ: 250 و251.
12- بحار الأنوار، ج44، ص393.
13- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص194، دار الكتاب الإسلاميّ.
14- اللهوف، ص42، المطبعة الحيدريّة.
15- نفس المصدر، ص51.
16- صحيفة نور، ج15، ص55.
17- العنكبوت، 1 و3.
18- صحيفة نور، ج1، ص25.
19- نهج البلاغة، الخطبة 51، نظم صبحي الصالح.
20- المناقب، لابن شهر آشوب، ج4، ص68.
21- أعيان الشيعة، ج1، ص581.
22- بحار الأنوار، ج71، ص339.
23- وقعة الطفّ، ص169.
24- الإرشاد، للشيخ المفيد، ج2، ص39.
25- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص369.
26- مفاتيح الجنان، زيارة الأربعين، ص468.
27- النساء، 75.
28- أمالي الشيخ الطوسيّ، ص66.
29- المناقب، لابن شهر آشوب، ج4، ص67.
30- آل عمران، 169.
31- صحيفة نور، ج10، ص110.
32- صحيفة نور، ج20، ص59.
33- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص399.
34- نفس المصدر، ص464.
35- بحار الأنوار، ج44، ص386 ـ 387.
36- الأحزاب، 23.
37- الكامل لابن الأثير، ج2، ص563.
38- مثيرالأحزان، ص41.
39- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص226.
40- بحار الأنوار، ج44، ص374.
41- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص358.
42- أعيان الشيعة، ج1، ص581.
43- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص 402.
44- نفس المصدر، ص407.
45- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص409.
46- معالي السبطين، ج2، ص18.
47- مناقب آل أبي طالب، ج4، ص68.
48- معاني الأخبار، ص288.
49- البحار، ج45، ص12.
50- البحار، ج44، ص286.
51- صحيفة نور، ج14، ص266.
52- نفس المصدر، ج20، ص113.
53- صحيفة نور، ج15، ص154.
54- نفس المصدر، ج21، ص198.
55- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص398.
56- معاني الأخبار، ص288 و289.